بلاد الأشواق
صفحة 1 من اصل 1
بلاد الأشواق
بلاد الأشواق
دار السعادة
من قصيدة طويلة للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في وصف الجنة:
ومـــــا ذاكَ إلا غــــيرة أنْ يَنــــــــالـَــهـــــــا ***سوى كفئها ، والربُّ بالخلقِ أعلَمُ
وإن حُــــجِبَتْ عنـــــا بكــــــلِّ كـــــــــريهة ٍ *** وحُـــــفَّتْ بما يُؤذي النفوسَ ويُؤلِمُ
فــــلله مــا في حــــشوهـا من مَســــرة ٍ ***وأصنــافِ لــــــذاتٍ بهـــــــــا يُتَنَعَّــمُ
ولله بــــردُ العيــــشِ بينَ خِيـــــــــامِـهــــــا ***وروضاتِها، والثغرُ في الروضِ يبسمُ
لله واديهــــا الــذي هو مــــوعدُ الــــمـــــز *** يـَــــدِ لِـــــوَفْدِ الحـُبِّ لو كُنْتُ مِنْهُمُ
بذيـَّــــــالك الـــوادي يـَــــهِيمُ صَــبــــابــــة ً *** مُحــبٌ يرى أن الصَّبــــــابةَ مَــــغْنَمُ
ولله أفــــراحُ المُــحـــــبينَ عِــــنْدمــــــــــــا *** يُخَـــاطِبُهم من فـــوقهم ، ويسلــمُ
ولله أبصــــــــــــــارٌ تـــــــــــرى الله جـــهرة ً *** فلا الضيمُ يَغشاها ،ولا هيَ تَسأمُ
فيـا نــظرة ً أهـــدَت إلى الـوجـــــــه نَضْرة ً *** أمِــنْ بعدِها يَسلو المحبُّ المُـتَـيَّمُ
ولله كـــــم مـــن خــــيـــرة ٍ إن تَبَسَّــــمتْ ***أضــاءَ لها نورٌ من الفجــــرِ أعظــــمُ
فَيــــــــا لـــــذَّة الأبصــــارِ إن هـي أقـــبلتْ *** ويــــا لـــــذة الأسمــاعِ حين تَكَـلَّمُ
ويــــا خَـــــــجْلَةَ الغصن الـرطيب إذا انثنتْ *** ويـــا خـــجلة الفجرين حين تَبَتسم
فــــإن كـــنت ذا قــــلبٍ عليل بحبهــــــــــا ***فلم يَبْق إلا وَصــــــلُها لكَ مَرهَــــم
ولا سيَّمــــــــــا في لثمِها عنــــد ضــمِهــا *** وقد صارَ منهـــا تحت جِيدِكَ معصمُ
تـــــراهُ إذا أبـــــدتْ لــــه حُسْـــنَ وجـهِهــا *** يَلـــذ ُّ به قبـــــل الوصــالِ ، وينعـــمُ
تَفَــكـّــــــه منهــــا العينُ عند اجـــتـــلائهـا ***فواكهَ شتى ، طلعُهــا ليس يُعْــدَمُ
عــــنـــاقيدُ من كــــرم ٍ ، وتفـــــــاح جـــنة ٍ *** ورمانُ أغصـــــان ٍ به القلبُ مغـــرَمُ
ولِلــوَردِ مـــا قد ألبَسته خـــــدودُهــــــــــــا *** وللخمرِ ما قـــــد ضمَّه الريقُ والفَمُ
تقسَّم منهــــا الحُسْـنُ في جمع ٍ واحــد ٍ ***فَيــــــا عــجبــــاً من واحد ٍ يَتقسَّمُ
لهـــا فِــــرَقٌ شتَّى من الحُــســنِ أجَمِعَتْ ***بجُــــملَتِهــا ، إنَّ السُــلوَّ مُحَـــــرَّمُ
تَـذكر بالــــرحــــمن مَنْ هُــــــوَ نـــــاظــــــرٌ *** فـــينطقُ بــــــالتسبيحِ لا يتلعثــمُ
إذا قَـــــابَلَتْ جيش الهُمومِ بوجِـــــهــهــــــا *** تـــولَّى على أعقابهِ الجيشُ يُهْزَمُ
ولمَّــــا جــــــرى مـــــاءُ الشــــابِ بغُصنِهـــا *** تيقَّـــــنَ حـــــقاً أنـــه ليسَ يَـــهرَمُ
فيــــا خــــاطبَ الحسنـــــاءِ إن كنتَ راغبــاً *** فــــــــهذا زمانُ المَهرِ فهوَ المُقدَّمُ
وكـــــن مُبغضــــاً للخـــائِنــــــاتِ لــــحـبِّهــا *** فتَحــظى بهـــا من دُونِهنَّ وَ تَنـْـعَمُ
وكن أيِّمـــــا مــمَّن ســـــواهـــــا فَــــإنهــــا *** لمثــــــلِكَ في جنــــاتِ عَدْن ٍ تأيَّمُ
وصُــــمْ يومَـــــكَ الأدنى لعـــــلَّكَ فــي غد ٍ *** تَفـــوزُ بعيـــد الفطرِ ، والناس صومُ
وأقــــدمْ ولا تـــــقنعْ بــــعــيش ٍ مُــــنَغـَّص ٍ *** فمــــــا فاز باللَّذاتِ من ليس يُقدِمُ
و إنْ ضــــاقَتِ الدنيـــــا عـلَيك بأسرِهــــــــا *** ولــــــــم يـَــــكُ فيها مَنْزلٌ لَكَ يُعْلَمُ
فــحيَّ عَلى جنــــــاتِ عـــــدن ٍ فـــإنَّهــــــا ***منــــــازلُكَ الأولى وفيهــــا المُخيَّمُ
ولكــــــــنَّنـــا ســــبي العــــدوِّ فهـــــل تـَرى *** نَعـــــودُ إلى أوطــــانِنـــــا ونسلَّـــمُ
وقـــــد زَعـــــــموا أنَّ الغــــــريبَ إذا نَــــــأى *** وشَطَّــــتْ بـــه أوطــــانُهُ فَهْوَ مُغرَمُ
وأيُّ اغتـِـــــــراب ٍ فــــــــوقَ غُربَتنــــــا التي *** لها أضْحَتِ الأعداءُ فينــــا تَحـــــكَّمُ
وحـــــيَّ على روضـــــــاتها وخــــــــيـــــامها *** وحيَّ على عيش بها ليس يسأمُ
وحيَّ على السوقِ الذي فيه يلتقي المُحِـ *** ـبون ذاكَ السوقُ للقــــوم مُعلـــمُ
فمــــا شئتَ خُـــذْ منهُ بــــــلا ثَـــــمن ٍ لـــه *** فقد أسلَفَ التُّجارُ فيه وأســـــلَموا
وحـــــيَّ علـــى يوم المــــزيدِ الـــذي بـــــهِ *** زيارةُ ربِّ العرشِ ، فاليوم مَوسِـــمُ
وحـــــيَّ علـــى واد ٍ هنــــــــــالِكَ أفْيَــــــح ٍ ***وتــــربَتهُ مــــن أذْفَرِ المسكِ أعظَمُ
منــــــابرُ من نــــور ٍ هنـــــــــــــاكَ وفضــــة ٍ *** ومِنْ خــــالِصِ العقيــــانِ لا تتقصَّمُ
وكثبـــــانُ مســـك ٍ قد جُــــعِلْنَ مَقــــــاعداً *** لِمَنْ دونَ أصحــــابِ المنــــابر تُعلمُ
يــــــــــــرون به الرحــمن - جــــــل جـلاله - *** كـــــــرؤية بـــــــدر الــتمِّ ، لا يتوهمُ
وكــــالشمس صــــــحواًَ من دون أفقــــــــها *** سحـــــــــابٌ ، ولا غيمٌ هناك يغيِّم
فبينــــــــا هُــــمُ في عيشِهم وسرورِهــــم ***وأرزاقـُــــهُم تجري عليهم وتُـقْسَمُ
إذا هُـــمُ بنور ٍ ســـــاطع ٍ قد بــــــــدا لهم : *** ســــلامٌ عـليكم : طبتمُ ، ونَعِمتمُ
سَـــــلامٌ عليكـُـــم يَسمعونَ جــــــــميعُهُمْ *** بــــــآذانِهـــم تَسْليمَه إذْ يُسَــلِّـــمُ
يقــــــولُ سَـــلوني مـــا اشْتَهَيْتُمْ فَـكُل مـا ***تُريدونَ عنـــدي ، إنَّني أنــــا أرْحَـمُ
فقـــــالوا جميعــــــاً : نحـن نَســألُكَ الرِّضــا *** فأنتَ ، الذي تولي الجميلَ وترحَـمُ
فَيعطِـــيهمُ هـــــذا ، ويشهد جـــمعُهــــــــمْ *** عــــليهِ ، تعالى الله ، فالله أكــــرَمُ
ولكـــــــنَّما التــــــــوفيق بـــــالله إنَّـــــــــــــه *** يخــص به من شاء - فضلاً - وينْعمُ
فيـــــا بــــائِعــــاً هَــــذا ببخــــس ٍ مُعجَّــــل ٍ *** كـأنَّكَ لا تَدري ، بَلى سوفَ تَعْـلَـمُ
فقــــدِّمْ فــــــدتكَ النَّفـــــسُ نفسَــــــكَ إنَّها *** هـــي الثمنُ المبذولُ حين تسلَّمُ
وخــــــــض غـــمراتِ المـــوتِ وارقَ معارجَ الـ *** ـمحبَّةِ في مرضـــــــــاتهم تَتسنَّمُ
وســــــلِّم لهم مــــا عقــــــــدوك عــــليه إنْ ***تُرد مـــــنهمو أنْ يَبــذلوا ويُسلِّموا
فــــــما ظَـــفِـــــرت بالـــوصل نفـــسٌ مهينةٌ *** ولا فــــــــازَ عبدٌ بالبطــــــالة ينعمُ
وإن تـــــكُ قد عاقتك سُعدَي فقـــــــــلبك الـ *** ـمُعنَّي رهــــينٌ في يديها مُسلَّمُ
وقد ســـــــــاعَدت بالــــــوصل غيرك فالهوى *** لها منك والــــــواشي بهــا يَتنعَّمُ
فـــــــدعها وســــلِّ النفـــــــسَ عنها بجنَّةٍ ***من العلم في روضاتها الحقُّ يَبسِمُ
وقــــــد ذُلــِّلت منهــــا القطـــــوفُ فمن يرد *** جــــــناها يَنله كــــيف شاء ويُطعمُ
وقـــــــــــد فَتحــتْ أبــــوابها وتــــــــزيَّنـــــتْ *** لخُــــــطَّابها فالحُسنُ فيها مُقسَّمُ
وقد طــــــــــــاب منها نُــــــــزلُها ونَــــــزيلُها *** فطـوبى لمن حــــــــلُّوا بها وتنعَّموا
أقـــــــــام عــــــــــلى أبوابها داعــي الهُدى *** هــــــلمُّوا إلى دار السعادة تَغْنَمُوا
وقد غـــــرسَ الرحـــــــــمنُ فيها غـــــــراسهُ *** من الناس والرحمنُ بالخلق أعلمُ
ومـــــــــــن يغرس الرحــــــــــمنُ فيهـــا فإنَّه *** سعـــــــــيدٌ وإلا فــــالشقاءُ مُحتَّمُ
-----
ابن قيم الجوزية
كتاب الميمية لابن قيم الجوزية - دار الآثار - ص 35
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى