المعصوم يضحك
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهدِ الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)).
* أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهَدي هَديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأُمورِ مُحدثاتُها، وكل مُحدَثةِ بِدعةٌ، وكل بِدعة ضلالة، وكلَّ ضلاله في النار.
* أيها المؤمنون:
عنوان هذه الخطبة (المعصوم يضحك) محمد صلى الله عليه وسلم يضحك، نعيش معه هذا اليوم ضاحكاً، كما عشنا معه أياماً، وهو باك متأثر خاشع لله عز وجل.
مَن الذي أضحكه صلى الله عليه وسلم، إنه الله الواحد الأحد، ((وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)).
وما له لا يضحك صلى الله عليه وسلم، ودينه رحمة، ومنهجه سعادة، ودستوره فلاح.
لقد عشنا معه صلى الله عليه وسلم في مواطن التأثر باكياً، تدمع عيناه، وينجرح فؤاده، ونعيش معه اليوم وهو يهش للدعابة، ويضحك للطرفة، ويتفاعل مع أصحابه في مُجرَيات أُمورهم وأحاديثهم.
إن مدرسة التصوّف تُملي على مَنسوبِيها ألا يضحكوا، يقول أحدهم: ما ضحكت منذ أربعين سنة.
لكن الإمام الأعظم، والقائد الأكمل يضحك في مواطن حياته.
وضحكه صلى الله عليه وسلم له مقاصد، ضحك نافع، يُربي البسمة، ويدرس بالضحك، ويعلم بالمزحة.
فتعالوا نستمع إلى أحاديثه صلى الله عليه وسلم وهو يضحك:

ضحكت لك الأيامُ يا علم الهدى واستبشَرَت بقدومك الأعوام


وتوقف التاريخُ عندك مُذعِناً تُملي عليه وصحبك الأقلام


أضحك لأنك جئت بُشرى للورى في راحتيك السلمُ والإسلام


أضحك فبعثتُك الصعودُ وفجرُها ميلاد جيلِ ما عليه ظلام
روى أحمد في المسند بسند صحيح، والبيهقي (أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب حماراً له يدعى يعفور، رسنه من لِيف، ثم قال: اركب يا معاذ ، فقلت: سِر يا رسول الله، فقال:اركب، فردفته).
وعليكم أن تستحضروا هذه الصورة؟
مَن هو الراكب، إنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخرج البشرية من ظُلُمات الشرك، إلى نور التوحيد، يركب الحمار، وُيردِف خلفه تلميذاً نجيبا من تلامذته.
قال معاذ : (فردفته، فصُرعَ الحمار بنا سقط الحمار، وسقط النبي صلى الله عليه وسلم وسقط معاذ رضي الله عنه فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال معاذ : فقام النبي صلى الله عليه وسلم يضحك، وقُمت أذكر من نفسي أسفاً، قام يضحك).
رسالته مليئة بالبسمة، والبُشرى، والرحمة لكل إنسان، يفيض على مُحبيه بشاشة، ويُقربهم من السعادة بكل صورها، يقول جرير بن عبد الله : ]والله ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي].
قال معاذ : (فقام النبي صلى الله عليه وسلم يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً، ثم فعل ذلك الثانية، والثالثة، فركب، وسار بنا الحمار، فأخلَفَ يده، فضرب ظهري بسوط معه أو عصاً ثم قال: يا معاذ ، هل تدري ما حق الله على العِباد؟
فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد؟
أن يعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئاً، قال: ثم سار ما شاء الله، ثم أخلف يده، فضرب ظهري، فقال: يا معاذ ، يا ابن أم معاذ، هل تدري ما حق العِباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟
قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق العِباد على الله إذا فعلوا ذلك، أن يُدخِلهم الجنة) (1) .
* أيّها الناس:
إن هذا الإنسان، الذي حرّم على نفسه وأطفاله البسمة والضحكة، معتذراً بمشاغل الحياة وآلام الدهر، نقول له: إن مَن كان يحمل هموم البشرية كلها، ويحمل رسالة أبَت السموات والأرض والجبال حملها، محمد عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان يضحك.
كان في يوم أحد ، والجيوش مُلتَحِمَة، والسيوف تتنزل بالرؤوس والجماجم، والرِّماح تسيل بالدماء، والموت في كل مكان، كان يضحك.


تمر بك الأبطال كَلمى هزيمة ووجهُك وضاح وثَغرُكَ باسمُ


نثرتهم فوق الأُحيدب نثرة كما نثرت فوق العروس الدراهم
ويضحك صلى الله عليه وسلم مرة أخرى؟
روى الترمذي ، وأبو داود ، بأسانيد صحيحة، عن علي بن ربيعة قال: ]شهدت علياً ، وأتى بدابّة ليركبها، فلما وضع رِجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: ((سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ)) ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحَك، فقيل يا أمير المؤمنين: من أيّ شيء ضحكت؟
قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت:يا رسول الله، من أيّ شيء ضحكت؟
قال: (إن ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري) ] (1) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يضحك، لأن هذه الأُمة تعرف ربها، وتتوجه إليه بالدعاء ليغفر ذنوبها، فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم، رحمة لهذه الأُمة، وفرحاً لأن الله عز وجل يغفر الذنوب لكل مَن استغفر وتاب.
ويضحك صلى الله عليه وسلم أيضاً كما في صحيح مسلم ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل مُقبِل بوجهه إلى النار (1)فيقول:أي ربّ، اصرِف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها (1) ، وأحرقني ذكاؤها (1) ، فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل عسيت إن فعلت أن تسأل غيره؟
فيقول: لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك، لا تسألني غير الذي أعطيتك، ويلك يا ابن آدم ما أغدَرَك!.
فيقول: أي رب، ويدعو الله حتى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك، فيعطي ربّه ما شاء الله من عهود ومواثيق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة، انفهقت (1) .
له الجنة، فرأى ما فيها من الخير والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، أدخِلني الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت، ويلك يا ابن آدم ، ما أغدرك؟
فيقول: أي رب، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله، حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه، فإذا ضحك الله منه، قال: ادخل الجنة، فإذا دخلها، قال الله له: تمنه، فيسأل ربّه ويتمنى حتى إن الله ليذكره من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله تعالى: ذلك لك ومثله معه.
قال أبو سعيد : أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ذلك لك وعشرة أمثاله.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضحك حتى بَدَت نواجذه) (1)
* أيّها الناس:
هذه عقيدة ربانية ينبغي الإيمان بها، يضحك الرب تبارك وتعالى، وإذا ضحك، أذِنَ لهذا العبد في دخول الجنة، وأعطاه مثل أعظم ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أمثاله، وهذا أدنى أهل الجنة منزلة، كما قال الناظم :


أقلهم مَن ملكا من الدنيا ملك وعشرة أمثالها بدون شك


لكنما موطنُ سُوطٍ فيها خيرٌ من الدنيا وما عليها
وإنما ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من طمع العبد، ومن نقضه لميثاقه مع ربّه، ومن رحمة أرحم الراحمين.
ويضحك الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، يأتيه حَبر من أحْبار يهود فيقول له: (يا أبا القاسم، إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحَبر، تصديقاً له، ثم قرأ (( وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّات ٌبِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )) ) (1) * وإنما ضحك عليه الصلاة والسلام لأُمور:منها: أن القرآن صدق ما قاله هذا الحَبر من أُمور القيامة.
ومنها: أن اليهود يعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق ما أخبر به، ثم يكذِّبون على الله، ويكذبون رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: التعجب من قدرة الباري تبارك وتعالى.
ومنها: أن العبد مهما بلغت عبوديته لله تعالى، فإنه لا يستطيع أن يوفي الله عز وجل حقه، وغير ذلك من المعاني.
هذه وقفات، رأينا فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، والضحك في حياته صلى الله عليه وسلم، كان له مغزى وهدف، لا كضحك السّفهاء الفارِغِين، الذين يعيشون على هامش الحياة، ولكنه ضحك المعلم الحكيم، الذي يُرشِد الناس إلى الخير، ولو عن طريق الضحكة والبسمة.
يذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل على أم حرام بنت ملحان (1) ، فتطعمه، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فأطعمته، ثم جلست تُفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: (ما يُضحِكك يا رسول الله؟
قال: ناس من أُمتي، عُرِضوا علي ُغزاة في سبيل الله، يركبون ثبج
(1) البحر، ملوكاً على الأسِرة)، أو مثل الملوك على الأسِرة- يشك الراوي.
يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك، لأنه رأى البُشرى، رأى تلامذته وأتباعه وكتيبته، سيركبون البِحار والمحيطات؛ غُزاة في سبيل الله، ينشرون لا إله إلا الله في الآفاق، ويعبُرون بها حدود الزمان والمكان.
يضحك صلى الله عليه وسلم، لأن الإسلام سوف ينتشر ويظهر، وينفذ إلى القِفار والصحاري، ويصل إلى عُباد البقر والشجر والنار والطوطم والصنم.
فقالت المرأة: (يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: ما يُضحِكك يا رسول الله؟
قال: ناس من أُمتي عُرِضوا علي ُغزاة في سبيل الله، كما قال في الأولى، قالت: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأوّلين.
فركبت
أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية (1) ، فصُرِعَت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهَلَكَت) (1) .


كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البِحار بحارا


بمعابِد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا


لن تنسَ إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
ماتت هذه المرأة الصالحة، وهي تُجاهِد في سبيل الله، فكانت شهيدة ودُفِنَت هناك في أرض غريبة.
* عِباد الله:
هذه مواطن نعيشها مع إمامنا صلى الله عليه وسلم، حتى يعرف الناس، أن من صفحاته عليه الصلاة والسلام صفحة؟
فيها الضحك، وفيها الدعابة، وفيها المُزاح، ومُسامَرة الأهل وملاطَفة الناس.
وهذه الصفحة لا بد أن يعرفها الناس، وأن يتكلم عنها العلماء والدعاة، حتى تعرف البشرية، أن في ديننا فُسحَة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني