اهلا وسهلا بكم بمنتديات همسات اسلامية
هذه ولله الحمد والمنّة صفحات أرجو بها الفائدة لي وللمسلمين في أنحاء العالم وقد وفقني الله تعالى لجمع ما تيسر لي من معلومات تفيدنا في فهم ديننا الحنيف والمساعدة على الثبات على هذا الدين الذي ارتضاه لنا سبحانه ووفقنا وهدانا لأن نكون مسلمين .
وفقنا الله جميعاً لخدمة هذا الدين كل منّا بقدر إمكانياته فكلّنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته. بارك الله بالجميع وأتمنى لكم تصفّحاً مفيداً نافعاً إن شاء الله تعالى وشكراً لكم على زيارة هذا الموقع المتواضع. وما توفيقي إلا بالله العزيز الحميد فما أصبت فيه فمن الله عزّ وجل وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان فأسأل الله أن يغفر لي ولكم وأن يعيننا على فعل الخيرات وصالح الأعمال وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلّها اللهم آميـــن.
يسعدنا التسجيل في منتدانا
تحياتى لكم ...........
همسات اسلامية

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

اهلا وسهلا بكم بمنتديات همسات اسلامية
هذه ولله الحمد والمنّة صفحات أرجو بها الفائدة لي وللمسلمين في أنحاء العالم وقد وفقني الله تعالى لجمع ما تيسر لي من معلومات تفيدنا في فهم ديننا الحنيف والمساعدة على الثبات على هذا الدين الذي ارتضاه لنا سبحانه ووفقنا وهدانا لأن نكون مسلمين .
وفقنا الله جميعاً لخدمة هذا الدين كل منّا بقدر إمكانياته فكلّنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته. بارك الله بالجميع وأتمنى لكم تصفّحاً مفيداً نافعاً إن شاء الله تعالى وشكراً لكم على زيارة هذا الموقع المتواضع. وما توفيقي إلا بالله العزيز الحميد فما أصبت فيه فمن الله عزّ وجل وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان فأسأل الله أن يغفر لي ولكم وأن يعيننا على فعل الخيرات وصالح الأعمال وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلّها اللهم آميـــن.
يسعدنا التسجيل في منتدانا
تحياتى لكم ...........
همسات اسلامية
اهلا وسهلا بكم بمنتديات همسات اسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

السيرة النبوية الشريفة

+2
تسنيم الجنان
القعقاع
6 مشترك

صفحة 2 من اصل 3 الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع السبت 21 مايو - 13:58

ـ الإيمــان بالله‏:‏

إن السبب الرئيسي في ذلك أولًا وبالذات هو الإيمان بالله وحده ومعرفته حق المعرفة، فالإيمان الجازم إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش، وإن صاحب هذا الإيمان المحكم وهذا اليقين الجازم يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت ـ يراها في جنب إيمانه ـ طحالب عائمة فوق سَيْل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة، فلا يبالى بشيء من تلك المتاعب أمام ما يجده من حلاوة إيمانه، وطراوة إذعانه، وبشاشة يقينه ‏{‏ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏17‏]‏‏.‏

ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوى هذا الثبات والمصابرة وهي‏:‏

2 ـ قيادة تهوى إليها الأفئدة‏:‏

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو القائد الأعلى للأمة الإسلامية، بل وللبشرية جمعاء ـ يتمتع من جمال الخلق، وكمال النفس، ومكارم الأخلاق، والشيم النبيلة، والشمائل الكريمة، بما تتجاذب إليه القلوب وتتفإني دونه النفوس، وكانت أنصبته من الكمال الذي يحبَّبُ لم يرزق بمثلها بشر‏.‏ وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل‏.‏ وكان من العفة والأمانة والصدق، ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلًا عن محبيه ورفقائه، لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها‏.‏

اجتمع ثلاثة نفر من قريش، وكان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سرًا عن صاحبيه، ثم انكشف سرهم، فسأل أحدهم أبا جهل ـ وكان من أولئك الثلاثة‏:‏ ما رأيك فيما سمعت من محمد‏؟‏ فقال‏:‏ ماذا سمعت‏؟‏ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كَفَرَسىْ رِهَان قالوا‏:‏ لنا نبى يأتيه الوحى من السماء، فمتى ندرك هذه‏؟‏ والله لا نؤمن به أبدًا، ولا نصدقه‏.‏

وكان أبو جهل يقول‏:‏ يا محمد، إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله‏:‏‏{‏ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏33‏]‏‏.‏

وغمزه صلى الله عليه وسلم الكفار يومًا ثلاث مرات فقال في الثالثة‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش، جئتكم بالذبح‏)‏، فأخذتهم تلك الكلمة حتى إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده‏.‏

ولما ألقوا عليه سَلاَ جَزُورٍ وهو ساجد، دعا عليهم، فذهب عنهم الضحك، وساورهم الهم والقلق، وأيقنوا أنهم هالكون‏.‏

ودعا على عتبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه حتى إنه حين رأي الأسد قال‏:‏ قتلنى والله ـ محمد ـ وهو بمكة‏.‏

وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل أنا أقتلك إن شاء الله‏)‏، فلما طعن أبيًا في عنقه يوم أحد ـ وكان خدشًا غير كبير ـ كان أبي يقول‏:‏ إنه قد كان قال لى بمكة‏:‏ أنا أقتلك، فو الله لو بصق على لقتلني ـ وسيأتي‏.‏

وقال سعد بن معاذ ـ وهو بمكة ـ لأمية بن خلف‏:‏ لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إنهم ـ أي المسلمين ـ قاتلوك‏)‏ ففزع فزعًا شديدًا، وعهد ألا يخرج عن مكة، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار، وقالت له امرأته‏:‏ يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي‏؟‏ قال‏:‏ لا والله ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا‏.‏

هكذا كان حال أعدائه صلى الله عليه وسلم،أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منهم محل الروح والنفس، وشغل منهم مكان القلب والعين، فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الحُدور، وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس‏.‏

فصورته هيولى كل جسم ** ومغناطيس أفئـدة الرجــال

وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر أو يشاك شوكة‏.‏

وطيء أبو بكر بن أبي قحافة يومًا بمكة، وضرب ضربًا شديدًا، دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال‏:‏ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير‏:‏ انظرى أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول‏:‏ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لا علم لى بصاحبك، فقال‏:‏ اذهبى إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت‏:‏ إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت‏:‏ ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، قالت‏:‏ نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت‏:‏ والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال‏:‏ فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ هذه أمك تسمع، قال‏:‏ فلا شيء علىك منها، قالت‏:‏ سالم صالح، فقال‏:‏ أين هو‏؟‏ قالت‏:‏ في دار ابن الأرقم، قال‏:‏ فإن لله على ألا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْل، وسكن الناس خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتـاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وسننقل نوادر الحب والتفإني في مواضع شتى من هذا الكتاب، ولا سيما ما وقع في يوم أحد، وما وقع من خبيب وأمثاله‏.‏

3 ـ الشعور بالمسئولية‏:‏

فكان الصحابة يشعرون شعورًا تامًا ما على كواهل البشر من المسئولية الفخمة الضخمة، وأن هذه المسئولية لا يمكن عنها الحياد والانحراف بحال، فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد وخامة وأكبر ضررًا عما هم فيه من الاضطهاد، وأن الخسارة التي تلحقهم ـ وتلحق البشرية جمعاء ـ بعد هذا الفرار لا يقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل‏.‏

4 ـ الإيمـان بالآخـرة‏:‏

وهو مما كان يقوى هذا الشعور ـ الشعور بالمسئولية ـ فقد كانوا على يقين جازم بأنهم يقومون لرب العالمين، ويحاسبون على أعمالهم دقها وجلها، صغيرها وكبيرها، فإما إلى النعيم المقيم، وإما إلى عذاب خالد في سواء الجحيم، فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه، وكانوا ‏{‏يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏60‏]‏، وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوى جناح بعوضة في جنب الآخرة، وكانت هذه المعرفة القوية تهون لهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها؛ حتى لم يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها بالًا‏.‏

5 ـ القـــرآن‏:‏

وفي هذه الفترات العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور والآيات تقيم الحجج والبراهين على صدق مبادئ الإسلام ـ التي كانت الدعوة تدور حولها ـ بأساليب منيعة خلابة، وترشد المسلمين إلى أسس قدر الله أن يتكون عليها أعظم وأروع مجتمع بشرى في العالم ـ وهو المجتمع الإسلامى ـ وتثير مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد، تضرب لذلك الأمثال، وتبين لهم ما فيه من الحكم ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏214 ‏]‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏1‏:‏ 3‏]‏‏.‏

كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين ردًا مفحمًا، ولا تبقى لهم حيلة، ثم تحذرهم مرة عن عواقب وَخِيمَة ـ إن أصروا على غيهم وعنادهم ـ في جلاء ووضوح، مستدلة بأيام الله، والشواهد التاريخية التي تدل على سنة الله في أوليائه وأعدائه، وتلطفهم مرة، وتؤدى حق التفهيم والإرشاد والتوجيه حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين‏.‏

وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر، ويبصرهم من مشاهد الكون وجمال الربوبية، وكمال الألوهية، وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنينًا لا يقوم له أي عقبة‏.‏

وكانت في طى هذه الآيات خطابات للمسلمين، فيها ‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ‏}‏ ‏[‏ التوبة‏:‏21 ‏]‏، وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالمين يحاكمون ويصادرون، ثم ‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏48‏]‏‏.‏

6 ـ البشارات بالنجاح‏:‏

ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف، بل إن الدعوة الإسلامية تهدف ـ منذ أول يومها ـ إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم، وأن من نتائجها في الدنيا بسط النفوذ على الأرض، والسيطرة على الموقف السياسي في العالم لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله، وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله‏.‏

وكان القرآن ينزل بهذه البشارات ـ مرة بالصراحة وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين، وكادت تخنقهم وتقضى على حياتهم كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تمامًا أحوال مسلمى مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين، وإيراث عباد الله الصالحين الأرض والديار‏.‏ فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية‏.‏

وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏171‏:‏ 177‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏45‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏11]‏‏.‏ ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏41‏]‏‏.‏ وسألوه عن قصة يوسف فأنزل الله في طيها‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏7‏]‏‏.‏ أي فأهل مكة السائلون يلاقون ما لاقى إخوانه من الفشل، ويستسلمون كاستسلامهم، وقال وهو يذكر الرسل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏13، 14‏]‏‏.‏وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس والرومان، وكان الكفار يحبون غلبة الفرس لكونهم مشركين، والمسلمون يحبون غلبة الرومان لكونهم مؤمنين بالله والرسل والوحى والكتب واليوم الآخر، وكانت الفرس يغلبون ويتقدمون، أنزل الله بشارة بغلبة الروم في بضع سنين، ولكنه لم يقتصر على هذه البشارة الواحدة، بل صرح ببشارة أخرى، وهي نصر الله للمؤمنين حيث قال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه‏}‏ ‏[‏الروم‏: ‏4، 5‏]‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يقـوم بمـثل هذه البشارات بين آونـة وأخـرى، فكـان إذا وافي الموسم، وقـام بـين الناس في عُكاظ، ومَجَنَّة، وذى المَجَاز لتبليغ الرسالة، لـم يكـن يبشرهم بالجـنة فحسب، بل يقول لهم بكل صراحة‏:‏ ‏(‏يأيها الناس، قولوا‏:‏ لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكًا في الجنة‏)‏‏.‏

وقد أسلفنا ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة حين أراد مساومته على رغائب الدنيا، وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلاة والسلام‏.‏

وكذلك ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب، فقد صرح لهم أنه يطلب منهم كلمة واحدة يعطونها تدين لهم بها العرب، ويملكون العجم‏.‏

وقال خباب بن الأرت‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت‏:‏ ألا تدعو الله، فقعد، وهو محمر وجهه، فقال‏:‏ ‏(‏لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوى ـ والذئب على غنمه‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ولكنكم تستعجلون‏)‏

ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة، بل كانت فاشية مكشوفة، يعلمها الكفرة، كما كان يعلمها المسلمون، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا‏:‏ قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون‏.‏

وأمام هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا، مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة كان الصحابة يرون أن الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب، والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء ليست إلا‏:‏ ‏(‏سحابة صيف عن قليل تقشع‏)‏‏.‏

هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذى أرواحهم برغائب الإيمان، ويزكى نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن، ويربيهم تربية دقيقة عميقة، يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح، ونقاء القلب، ونظافة الخلق، والتحرر من سلطان الماديات، والمقاومة للشهوات، والنزوع إلى رب الأرض والسموات، ويذكى جمرة قلوبهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذهم بالصبر على الأذى، والصفح الجميل، وقهر النفس‏.‏ فازدادوا رسوخًا في الدين،وعزوفا عن الشهوات، وتفانيًا في سبيل المرضاة، وحنينًا إلى الجنة، وحرصًا على العلم، وفقهًا في الدين، ومحاسبة للنفس، وقهرًا للنزعات وغلبة على العواطف، وتسيطرًا على الثائرات والهائجات، وتقيدًا بالصبر والهدوء والوقار‏.
ابقوا معنا

القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف تسنيم الجنان السبت 21 مايو - 15:15

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 12939822614
تسنيم الجنان
تسنيم الجنان
همسات اسلامية

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Adare
عدد المساهمات : 3861
نقاط : 11902
السٌّمعَة : 6
تاريخ التسجيل : 08/08/2010
الموقع : ♥فيني هدوء الكون وفيني جنونه♥

https://hmsat-islam.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف المعتزة بديني السبت 21 مايو - 17:20

بارك الله فيك والدنا الفاضل على جهدك المبارك وعلى ماتقدمه في منتدانا
سلمت يداك ورفع قدرك في الدارين
وجعل كل ماتقدم في ميزان حسناتك وشاهدا" لك يوم القيامة
المعتزة بديني
المعتزة بديني
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 1356
نقاط : 7744
السٌّمعَة : 12
تاريخ التسجيل : 07/08/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 24 مايو - 13:42

المرحلة الثالثة: دعـوة الإسـلام خـارج مكـة



*الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف :

في شوال سنة عشر من النبوة ‏[‏في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م‏]‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلًا، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهوبًا، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها‏.‏

فلما انتهي إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف، وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم‏:‏ هو يَمْرُط ثياب الكعبة ‏[‏أي يمزقها‏]‏ إن كان الله أرسلك‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما وَجَدَ الله أحدًا غيرك، وقال الثالث‏:‏والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولًا لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى أن أكلمك‏.‏ فقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم‏:‏ ‏[‏إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني‏]‏‏.‏

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا‏:‏ اخرج من بلادنا‏.‏ وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سِمَاطَيْن ‏[‏أي صفين‏]‏ وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء‏.‏ وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُبْلَة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار‏.‏ فلما جلس إليه واطمأن، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا مما لقى من الشدة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، قال‏:‏

‏(‏اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهوإني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى‏؟‏ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى‏؟‏ أم إلى عدو ملكته أمري‏؟‏ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏.‏

فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له‏:‏ عَدَّاس، وقالا له‏:‏خذ قطفًا من هذا العنب، واذهب به إلى هذا الرجل‏.‏ فلما وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده إليه قائلًا‏:‏ ‏(‏باسم الله‏)‏ ثم أكل‏.‏

فقال عداس‏:‏ إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أي البلاد أنت‏؟‏ وما دينك‏؟‏ قال‏:‏ أنا نصراني من أهل نِينَوَى‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى‏)‏‏.‏ قال له‏:‏ وما يدريك ما يونس ابن متى‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي‏)‏، فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها‏.‏

فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر‏:‏ أما غلامك فقد أفسده عليك‏.‏ فلما جاء عداس قالا له‏:‏ ويحك ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ يا سيدى، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبى، قالا له‏:‏ ويحك يا عداس ، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه‏.‏

ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبًا محزونًا كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة‏.‏

وقد روى البخاري تفصيل القصة ـ بسنده ـ عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كُلاَل، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب ـ وهو المسمى بقَرْنِ المنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال‏:‏ إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم‏.‏ فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال‏:‏ يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ـ أي لفعلت، والأخشبان‏:‏ هما جبلا مكة‏:‏ أبو قُبَيْس والذي يقابله، وهو قُعَيْقِعَان ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا‏)‏‏.‏

وفي هذا الجواب الذي أدلى به الرسول صلى الله عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم لا يدرك غوره‏.‏

وأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم واطمأن قلبه لأجل هذا النصر الغيبى الذي أمده الله عليه من فوق سبع سموات، ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ وادى نخلة، وأقام فيه أيامًا‏.‏ وفي وادى نخلة موضعان يصلحان للإقامة ـ السَّيْل الكبير والزَّيْمَة ـ لما بهما من الماء والخصب، ولم نقف على مصدر يعين موضع إقامته صلى الله عليه وسلم فيه‏.‏

وخلال إقامته صلى الله عليه وسلم هناك بعث الله إليه نفرًا من الجن ذكرهم الله في موضعين من القرآن‏:‏ في سورة الأحقاف‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏29‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وفي سورة الجن‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا‏}‏ إلـى تمـام الآيــة الخامـسة عشـر ‏[‏ الجن‏: ‏1: 15‏]‏‏.‏

ومن سياق هذه الآيات ـ وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث ـ يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حضور ذلك النفر من الجن حين حضروا وسمعوا، وإنما علم بعد ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة، ويقتضى سياق الروايات أنهم وفدوا بعد ذلك مرارًا‏.‏

وحقًا كان هذا الحادث نصرًا آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏32]‏، ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏12‏]‏‏.‏

أمام هذه النصرة، وأمام هذه البشارات، أقشعت سحابة الكآبة والحزن واليأس التي كانت مطبقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطرودًا مدحورًا، حتى صمم على العود إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة بنشاط جديد وبجد وحماس‏.‏

وحينئذ قال له زيد بن حارثة‏:‏ كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك‏؟‏ يعنى قريشًا، فقال‏:‏ ‏(‏يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه‏)‏‏.‏ وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحِرَاء، وبعث رجلًا من خزاعة إلى الأخنس بن شَرِيق ليجيره، فقال‏:‏ أنا حليف، والحليف لا يجير ، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل‏:‏ إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدى، فقال المطعم‏:‏ نعم ، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه ، فقال‏:‏ البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدًا، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهي إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى‏:‏ يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدى وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته‏.‏

وقيل‏:‏ إن أبا جهل سأل مطعمًا‏:‏ أمجير أنت أم متابع ـ مسلم‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ بل مجير‏.‏ قال‏:‏ قد أجرنا من أجرت‏.‏

وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسارى بدر‏:‏ ‏(‏لو كان المطعم بن عدى حيًا ثم كلمنى في هؤلاء النتنى لتركتهم له‏)‏‏.



*عرض الإسلام علي القبائل والأفراد :

في ذى القعدة سنة عشر من النبوة ـ في أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619 م ـ عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد، ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق لأداء فريضة الحج، وليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، فانتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إليه ، كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة ، وقد بدأ يطلب منهم من هذه السنة ـ العاشرة ـ أن يؤووه وينصروه ويمنعوه حتى يبلغ ما بعثه الله به‏.

*القبائل التي عرض عليها الإسلام :

قال الزهرى‏:‏ وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم‏:‏ بنو عامر بن صَعْصَعَة، ومُحَارِب بن خَصَفَة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعَبْس، وبنو نصر، وبنو البَكَّاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذْرَة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد‏.‏

وهذه القبائل التي سماها الزهرى لم يكن عرض الإسلام عليها في سنة واحدة ولا في موسم واحد، بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخر موسم قبل الهجرة‏.‏ ولا يمكن تسمية سنة معينة لعرض الإسلام على قبيلة معينة، ولكن الأكثر كان في السنة العاشرة‏.‏

أما كيفية عرض الإسلام على هذه القبائل، وكيف كانت ردودهم على هذا العرض فقد ذكرها ابن إسحاق، ونلخصها فيما يلي‏:‏

1 ـ بنو كلب‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطن منهم يقال لهم‏:‏ بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم‏:‏ ‏(‏يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم‏)‏، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم‏.‏

2 ـ بنو حنيفة‏:‏ أتاهم في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردًا منهم‏.‏

3 ـ وأتى إلى بني عامر بن صعصعة‏:‏ فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال بَيْحَرَة بن فِرَاس ‏[‏رجل منهم‏]‏‏:‏ والله، لو إني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال‏:‏ أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء‏)‏، فقال له‏:‏ أفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه‏.‏

ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ لهم لم يواف الموسم لكبر سنه، وقالوا له‏:‏ جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبى، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال‏:‏ يا بني عامر وهل لها من تَلاَف‏؟‏ هل لذُنَابَاها من مَطْلَب‏؟‏ والذي نفس فلان بيده ما تَقَوَّلَها إسماعيلى قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم‏؟‏‏.

*المؤمنون من غير أهل مكة :

وكما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام على القبائل والوفود، عرض على الأفراد والأشخاص، وحصل من بعضهم على ردود صالحة، وآمن به عدة رجال بعد هذا الموسم بقليل، وهاك نبذة منهم‏:

1 ـ سويد بن الصامت‏:‏

كان شاعرًا لبيبًا، من سكان يثرب، يسميه قومه ‏[‏الكامل‏]‏ لجلده وشعره وشرفه ونسبه، جاء مكة حاجًا أو معتمرًا، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال‏:‏ لعل الذي معك مثل الذي معى‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وما الذي معك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ حكمة لقمان‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏اعرضها عليَّ‏)‏‏.‏ فعرضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن هذا لكلام حسن، والذي معى أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله تعالى عليّ، هو هدى ونور‏)‏، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فأسلم، وقال‏:‏ إن هذا لقول حسن‏.‏ فلما قدم المدينة لم يلبث أن قتل في وقعة بين الأوس والخزرج قبل يوم بعاث‏.‏ والأغلب أنه أسلم في أوائل السنة الحادية عشرة من النبوة‏.‏



كان غلامًا حدثا من سكان يثرب، قدم في وفد من الأوس، جاءوا يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، وذلك قبيل حـرب بعاث في أوائل سنة 11 من النبوة؛ إذ كانت نيران العداوة متقدة في يثرب بين القبيلتين ـ وكان الأوس أقل عددًا من الخزرج ـ فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم جاءهم، فجلس إليهم، وقال لهم‏:‏ ‏(‏هل لكم في خير مما جئتم له‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أنا رسول الله، بعثنى إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل عليّ الكتاب‏)‏، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن‏.‏ فقال إياس بن معاذ‏:‏ أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع ـ رجل من الوفد ـ حفنة من تراب البطحاء فرمى بها وجه إياس، وقال‏:‏ دعنا فلعمرى لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة من غير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش‏.‏

وبعد رجوعهم إلى يثرب لم يلبث إياس أن هلك، وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته، فلا يشكون أنه مات مسلمًا‏.‏



وكان من سكان نواحي يثرب، ولعله لما بلغ إلى يثرب خبر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسويد بن الصامت وإياس بن معاذ، وقع في أذن أبي ذر أيضًا، وصار سببًا لإسلامه‏.‏

روى البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو ذر‏:‏ كنت رجلًا من غفار، فبلغنا أن رجلًا قد خرج بمكة يزعم أنه نبى، فقلت لأخي‏:‏ انطلق إلى هذا الرجل وكلمه، وائتنى بخبره، فانطلق فلقيه، ثم رجع، فقلت‏:‏ ما عندك‏؟‏ فقال‏:‏ والله، لقد رأيت رجلًا يأمر بالخير، وينهي عن الشر، فقلت له‏:‏ لم تشفنى من الخبر، فأخذت جرابًا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد‏.‏ قال‏:‏ فمر بى عليّ‏.‏ فقال‏:‏ كأن الرجل غريب‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه لا يسألنى عن شيء ولا أسأله ولا أخبره‏.‏ فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرنى عنه بشيء‏.‏ قال‏:‏ فمر بى عليّ فقال‏:‏ أما نال للرجل يعرف منزله بعد‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فانطلق معي، قال‏:‏ فقال‏:‏ ما أمرك‏؟‏ وما أقدمك هذه البلدة‏؟‏ قال‏:‏ قلت له‏:‏إن كتمت عليّ أخبرتك، قال‏:‏ فإني أفعل، قال‏:‏ قلت له‏:‏ بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبى الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفنى من الخبر، فأردت أن ألقاه‏.‏

فقال له‏:‏ أما إنك قد رشدت‏.‏ هذا وجهي إليه، ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط كإني أصلح نعلى، وامض أنت‏.‏ فمضى ومضيت معه حتى دخل، ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏فقلت له‏:‏اعرض عليّ الإسلام‏.‏ فعرضه، فأسلمت مكإني ، فقال لي‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجئت إلى المسجد، وقريش فيه ، فقلت‏:‏ يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، فقالوا‏:‏ قوموا إلى هذا الصابئ‏.‏ فقاموا، فضربت لأموت، فأدركنى العباس فأكب عليّ، ثم أقبل عليهم فقال‏:‏ ويلكم تقتلون رجلًا من غفار‏؟‏ ومتجركم وممركم على غفار، فأقلعوا عنى‏.‏ فلما أن أصبحت الغد، رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس‏.‏ فقالوا‏:‏ قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع بي ما صنع بالأمس، فأدركني العباس، فأكب عليّ وقال مثل مقالته بالأمس‏.‏



كان رجلًا شريفًا، شاعرًا لبيبًا، رئيس قبيلة دوس، وكانت لقبيلته إمارة أو شبه إمارة في بعض نواحى اليمن، قدم مكة في عام 11 من النبوة، فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجل تحية وأكرم تقدير، وقالوا له‏:‏ يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه ، وبين الرجل وزوجـه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئًا‏.‏

يقول طفيل‏:‏ فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئًا، ولا أكلمه، حتى حشوت أذنى حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفًا؛ فرقًا من أن يبلغنى شيء من قوله، قال‏:‏ فغدوت إلى المسجد فإذا هو قائم يصلى عند الكعبة، فقمت قريبًا منه، فأبي الله إلا أن يسمعنى بعض قوله، فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت في نفسى‏:‏ واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر؛ ما يخفي عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول‏؟‏ فإن كان حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فعرضت عليه قصة مقدمى، وتخويف الناس إياي، وسد الأذن بالكرسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت له‏:‏ اعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ الإسلام، وتلا عليّ القرآن‏.‏ فوالله ما سمعت قولًا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت له‏:‏ إني مطاع في قومى، وراجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لى آية، فدعا‏.‏

وكانت آيته أنه لما دنا من قومه جعل الله نورًا في وجهه مثل المصباح، فقال‏:‏ اللهم في غير وجهي‏.‏ أخشى أن يقولوا‏:‏ هذه مثلة، فتحول النور إلى سوطه، فدعا أباه وزوجته إلى الإسلام فأسلما، وأبطأ عليه قومه في الإسلام، لكن لم يزل بهم حتى هاجر بعد الخندق، ومعه سبعون أو ثمانون بيتًا من قومه، وقد أبلى في الإسلام بلاء حسنًا، وقتل شهيدًا يوم اليمامة‏.‏



كان من أزْدِ شَنُوءَة من اليمن، وكان يرقى من هذا الريح، قدم مكة فسمع سفهاءها يقولون‏:‏ إن محمدًا مجنون، فقال‏:‏ لو إني أتيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدى، فلقيه، فقال‏:‏ يا محمد، إني أرقى من هذا الريح، فهل لك‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‏.‏ أما بعد‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال‏:‏ لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه‏.‏

*ست نسمات طيبة من أهل يثرب :

وفي موسم الحج من سنة 11 من النبوة ـ يوليو سنة 620م ـ وجدت الدعوة الإسلامية بذورًا صالحة، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات، اتقى المسلمون في ظلالها الوارفة لفحات الظلم والعدوان حتى تغير مجرى الأحداث وتحول خط التاريخ‏.‏

وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل الله أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من أهل مكة المشركين‏.‏

فخرج ليلة ومعه أبو بكر وعلى، فمر على منازل ذُهْل وشيبان بن ثعلبة ، وكلمهم في الإسلام‏.‏ وقد دارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى الأجوبة، غير أنهم توقفوا في قبول الإسلام‏.‏

ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة منى، فسمع أصوات رجال يتكلمون فعمدهم حتى لحقهم، وكانوا ستة نفر من شباب يثرب كلهم من الخزرج،
‏وكان من سعادة أهل يثرب أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة، إذا كان بينهم شيء، أن نبيًا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج، فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم‏.‏

فلما لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏(‏من أنتم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ نفر من الخزرج، قال‏:‏ ‏(‏من موالى اليهود‏؟‏‏)‏ أي حلفائهم، قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أفلا تجلسون أكلمكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بلى، فجلسوا معه، فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن‏.‏ فقال بعضهم لبعض‏:‏ تعلمون والله يا قوم، إنه للنبى الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته، وأسلموا‏.‏

وكانوا من عقلاء يثرب، أنهكتهم الحرب الأهلية التي مضت قريبًا، والتي لا يزال لهيبها مستعرًا، فأملوا أن تكون دعوته سببًا لوضع الحرب، فقالوا‏:‏ إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك‏.‏

ولما رجع هؤلاء إلى المدينة حملوا إليها رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

*استطراد ـ زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة :

وفي شوال من هذه السنة ـ سنة 11 من النبوة ـ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة الصديقة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وبني بها بالمدينة في شوال في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين‏.‏
2 ـ عوف بن الحارث بن رفاعة ابن عَفْراء ‏[‏من بني النجار‏]‏‏.‏ 3 ـ رافع بن مالك بن العَجْلان ‏[‏من بني زُرَيْق‏]‏‏.‏ 4 ـ قُطْبَة بن عامر بن حديدة ‏[‏من بني سلمة‏]‏‏.‏ 5 ـ عُقْبَة بن عامر بن نابي ‏[‏من بني حَرَام بن كعب ‏]‏‏.‏ 6 ـ جابر بن عبد الله بن رِئاب ‏[‏من بني عبيد بن غَنْم ‏]‏‏.‏ 3 ـ أبو ذر الغفاري‏:‏ 2 ـ إياس بن معاذ‏:‏ 4 ـ طُفَيْل بن عمرو الدَّوْسى‏:‏ 5 ـ ضِمَاد الأزدى‏:‏ 1 ـ أسعد بن زُرَارة ‏[‏من بني النجار‏]‏‏.‏



القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 24 مايو - 13:44


الإســراء والمعــراج



وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يمـر بهذه المرحلة، وأخذت الدعوة تشق طريقًا بين النجاح والاضطهـاد، وبـدأت نجـوم الأمل تتلمح في آفاق بعيدة، وقع حادث الإسراء والمعـراج‏.‏ واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى‏:‏

1 ـ فقيل‏:‏ كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، واختاره الطبرى‏.‏

2 ـ وقيل‏:‏ كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووى والقرطبى‏.‏

3 ـ وقيل‏:‏ كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة‏.‏

4 ـ وقيل‏:‏ قبل الهجرة بستة عشر شهرًا، أي في رمضان سنة 12 من النبوة‏.‏

5 ـ وقيل‏:‏ قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة‏.‏

6 ـ وقيل‏:‏ قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة‏.‏

وَرُدَّتِ الأقوالُ الثلاثة الأول بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس‏.‏ ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة الإسراء‏.‏ أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحدًا منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جدًا‏.‏

وروى أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة، وفيما يلي نسردها بإيجاز‏:‏

قال ابن القيم‏:‏ أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البُرَاق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البراق بحلقة باب المسجد‏.‏

ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأي هنالك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن يساره‏.‏

ثم عرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح له، فرأي فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه ورحبا به، وأقرّا بنبوته‏.‏

ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأي فيها يوسف، فسلم عليه فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأي فيها إدريس، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأي فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقى فيها موسى بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له‏:‏ ما يبكيك ‏؟‏ فقال‏:‏ أبكى؛ لأن غلامًا بعث من بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتى‏.‏

ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقى فيها إبراهيم عليه السلام، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

ثم رفع إلى سدرة المنتهى، فإذا نَبْقُها مثل قِلاَل هَجَر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، ثم غشيها فراش من ذهب، ونور وألوان، فتغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها‏.‏ ثم رفع له البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون‏.‏ ثم أدخل الجنة، فإذا فيها حبائل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك‏.‏ وعرج به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صَرِيف الأقلام‏.‏

ثم عرج به إلى الجبّار جل جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى فقال له‏:‏ بم أمرك ربك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بخمسين صلاة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار‏:‏ أن نعم إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه ـ هذا لفظ البخاري في بعض الطرق ـ فوضع عنه عشرًا، ثم أنزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال‏:‏ ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل، حتى جعلها خمسًا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال‏:‏ ‏(‏قد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم‏)‏، فلما بعد نادى مناد‏:‏ قد أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى‏.‏ انتهي‏.‏

ثم ذكر ابن القيم خلافًا في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى، ثم ذكر كلامًا لابن تيمية بهذا الصدد، وحاصل البحث أن الرؤية بالعين لم تثبت أصلًا، وهو قول لم يقله أحد من الصحابة‏.‏ وما نقل عن ابن عباس من رؤيته مطلقًا ورؤيته بالفؤاد فالأول لا ينافي الثاني‏.‏

ثم قال‏:‏ وأما قوله تعالى في سورة النجم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏8‏]‏ فهو غير الدنو الذي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدل عليه، وأما الدنو والتدلى في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تعرض في سورة النجم لذلك، بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى‏.‏ وهذا هو جبريل، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين‏:‏ مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى، والله أعلم‏.‏ انتهى‏.‏

وقد جاء في بعض الطرق أن صدره صلى الله عليه وسلم شق في هذه المرة أيضًا، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الـرحلة أمورًا عديدة‏:‏

عرض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل‏:‏ هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك‏.‏

ورأي أربعة أنهار يخرجن من أصل سدرة المنتهى‏:‏ نهران ظاهران ونهران باطنان، فالظاهران هما‏:‏ النيل والفرات، عنصرهما‏.‏ والباطنان‏:‏ نهران في الجنة‏.‏ ولعل رؤية النيل والفرات كانت إشارة إلى تمكن الإسلام من هذين القطرين، والله أعلم‏.‏

ورأى مالكًا خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر ولا بشاشة، وكذلك رأي الجنة والنار‏.‏

ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعًا من نار كالأفهار، فتخرج من أدبارهم‏.‏

ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن أماكنهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم‏.‏

ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين‏.‏

ورأى النساء اللاتى يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن‏.‏

ورأى عيرًا من أهل مكة في الإياب والذهاب، وقد دلهم على بعير نَدَّ لهم، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلًا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبي الظالمون إلا كفورًا ‏.‏

يقال‏:‏ سُمى أبو بكر رضي الله عنه صديقًا؛ لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس‏.‏

وأوجز وأعظم ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ وهذه سنة الله في الأنبياء، قال‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏75‏]‏، وقال لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏23‏]‏، وقد بين مقصود هذه الإراءة بقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ فبعد استناد علوم الأنبياء إلى رؤية الآيات يحصل لهم من عين اليقين ما لا يقادر قدره، وليس الخبر كالمعاينة، فيتحملون في سبيل الله ما لا يتحمل غيرهم، وتصير جميع قوات الدنيا عندهم كجناح بعوضة لا يعبأون بها إذا ما تدول عليهم بالمحن والعذاب‏.‏

والحكم والأسرار التي تكمن وراء جزئيات هذه الرحلة إنما محل بحثها كتب أسرار الشريعة، ولكن هنا حقائق بسيطة تتفجر من ينابيع هذه الرحلة المباركة، وتتدفق إلى حدائق أزهار السيرة النبوية ـ على صاحبها الصلاة والسلام والتحية ـ أرى أن أسجل بعضًا منها بالإيجاز‏:‏

يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية؛ لما ارتكبوا من الجرائم التي لا مجال بعدها لبقائهم على هذا المنصب، وإن الله سينقل هذا المنصب فعلا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ويجمع له مركزى الدعوة الإبراهيمية كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة؛ من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحى القرآن الذي يهدى للتى هي أقوم‏.‏

ولكن كيف تنتقل هذه القيادة، والرسول يطوف في جبال مكة مطرودًا بين الناس‏؟‏ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن عهدًا من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام، وسيبدأ عهد آخر جديد يختلف عن الأول في مجراه، ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد بالنسبة إلى المشركين ‏{‏ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏16، 17‏]‏ وبجنب هذه الآيات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي يبتنى عليها مجتمعهم الإسلامى، كأنهم قد أووا إلى أرض امتلكوا فيها أمورهم من جميع النواحى، وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع، ففيه إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمنًا يستقر فيه أمره، ويصير مركزًا لبث دعوته في أرجاء الدنيا‏.‏ هذا سر من أسرار هذه الرحلة المباركة، يتصل ببحثنا فآثرنا ذكره‏.‏

ولأجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين العقبتين، والله أعلم‏.


*بيعة العقبة الأولى :

قد ذكرنا أن ستة نفر من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة 11 من النبوة، ووعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ رسالته في قومهم‏.‏

وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي ـ موسم الحج سنة 12 من النبوة، يوليو سنة 621م ـ اثنا عشر رجلًا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد التقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابق ـ والسادس الذي لم يحضر هو جابر بن عبد الله بن رِئاب ـ وسبعة سواهم، وهم‏:‏

1 ـ معاذ بن الحارث، ابن عفراء من بني النجار ‏[‏من الخزرج‏]‏

2 ـ ذَكْوَان بن عبد القيس من بني زُرَيْق‏.‏ ‏[‏من الخزرج‏]‏

3 ـ عبادة بن الصامت من بني غَنْم ‏[‏من الخزرج‏]‏

4 ـ يزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غنم ‏[‏من الخزرج‏]‏

5 ـ العباس بن عُبَادة بن نَضْلَة من بني سالم ‏[‏من الخزرج‏]‏

6 ـ أبو الهَيْثَم بن التَّيَّهَان من بني عبد الأشهل ‏[‏من الأوس‏]‏‏.‏

7 ـ عُوَيْم بن ساعدة من بني عمرو بن عَوْف ‏[‏من الأوس‏]‏‏.‏

الأخيران من الأوس، والبقية كلهم من الخزرج‏.‏

التقى هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن التي نزلت بعد الحديبية‏.‏

روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فأمـره إلى الله؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عـنه‏)‏‏.‏ قــال‏:‏ فبايعته ـ وفي نسخة‏:‏ فبايعناه ـ على ذلك‏.

*سفير الإسلام في المدينة :

وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المبايعين أول سفير في يثرب؛ ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه السفارة شابًا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، وهو مُصْعَب بن عُمَيْر العبدرى رضي الله عنه‏.

*النجاح المغتبط :

نزل مصعب بن عمير على أسعد بن زُرَارة، وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب بجد وحماس، وكان مصعب يُعْرَف بالمقرئ‏.‏

ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يومًا يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظَفَر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها‏:‏ بئر مَرَق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين ـ وسعد بن معاذ وأُسَيْد بن حُضَيْر سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك ـ فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد‏:‏ اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا‏.‏

فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب‏:‏ هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب‏:‏ إن يجلس أكلمه‏.‏ وجاء أسيد فوقف عليهما متشتمًا، وقال‏:‏ ما جاء بكما إلينا‏؟‏ تسفهان ضعفاءنا‏؟‏ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب‏:‏ أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، فقال‏:‏ أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن‏.‏ قال‏:‏ فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال‏:‏ ما أحسن هذا وأجمله‏؟‏ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين‏؟‏

قالا له‏:‏ تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين‏.‏ فقام واغتسل، وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال‏:‏ إن ورائى رجلًا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن ـ سعد بن معاذ ـ ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم‏.‏ فقال سعد‏:‏ أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم‏.‏

فلما وقف أسيد على النادى قال له سعد‏:‏ ما فعلت‏؟‏ فقال‏:‏ كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا‏:‏ نفعل ما أحببت‏.‏

وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ـ وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ـ لِيُخْفِرُوك‏.‏ فقام سعد مغضبًا للذى ذكر له، فأخذ حربته، وخرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة‏:‏ والله يا أبا أمامة، لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا منى، تغشانا في دارنا بما نكره‏؟‏

وقـد كان أسعد قال لمصعب‏:‏ جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد، فقال مصعب لسعد بن معاذ‏:‏ أو تقعد فتسمع‏؟‏ فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال‏:‏ قد أنصفت، ثم ركز حربته فجلس‏.‏ فعـرض عليــه الإسلام، وقـرأ علـيه القـرآن، قـال‏:‏ فعرفنـا والله في وجهـه الإسلام قبـل أن يتكلم، في إشـراقه وتهلّله، ثـم قـال‏:‏ كيـف تصنـعون إذا أسلمتـم‏؟‏ قالا‏:‏ تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين‏.‏ ففعل ذلك‏.‏

ثم أخذ حربته فأقبل إلى نادى قومه، فلما رأوه قالوا‏:‏ نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به‏.‏

فلما وقف عليهم قال‏:‏ يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمرى فيكم‏؟‏ قالوا‏:‏ سيدنا وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة، قال‏:‏ فإن كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله‏.‏ فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة، إلا رجل واحد ـ وهو الأُصَيْرِم ـ تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم ذلك اليوم وقاتل وقتل، ولم يسجد لله سجدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عمل قليلًا وأجر كثيرًا‏)‏‏.‏

وأقام مصعب في بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخَطْمَة ووائل‏.‏ كان فيهم قيس بن الأسلت الشاعر ـ وكانوا يطيعونه ـ فوقف بهم عن الإسلام حتى كان عام الخندق سنة خمس من الهجرة‏.‏

وقبل حلول موسم الحج التالى ـ أي حج السنة الثالثة عشرة ـ عاد مصعب بن عمير إلى مكة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشائر الفوز، ويقص عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير، وما لها من قوة ومنعة‏.



القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 24 مايو - 13:46

*بيعة العقبة الثانية :

في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة ـ يونيو سنة 622م ـ حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب،جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم ـ وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق‏:‏ حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف‏؟‏

فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل‏.‏

ولنترك أحد قادة الأنصار يصف لنا هذا الاجتماع التاريخي الذي حول مجرى الأيام في صراع الوثنية والإسلام‏.‏ يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه‏:‏

خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له‏:‏ يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدًا‏.‏ ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال‏:‏ فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا‏.‏

قال كعب‏:‏ فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القَطَا، مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب ـ أم عُمَارة ـ من بني مازن بن النجار،وأسماء بنت عمرو ـ أم منيع ـ من بني سلمة‏.‏

فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه عمه‏:‏ العباس بن عبد المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، وكان أول متكلم‏.



*بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسئولية :

وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لإبرام التحالف الدينى والعسكرى، وكان أول المتكلمين هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكلم ليشرح لهم ـ بكل صراحة ـ خطورة المسئولية التي ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف‏.‏ قال‏:‏

يا معشر الخزرج ـ وكان العرب يسمون الأنصار خزرجـًا، خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه،فهو في عز من قومه ومنعة في بلده‏.‏ وإنه قد أبي إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك‏.‏ وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه‏.‏ فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده‏.‏

قال كعب‏:‏ فقلنا له‏:‏ قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت‏.‏

وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم، وشجاعة مؤمنة، وإخلاص كامل في تحمل هذه المسئولية العظيمة، وتحمل عواقبها الخطيرة‏.‏

وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيانه، ثم تمت البيعة‏.

*بنود البيعة :

وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلًا‏.‏ قال جابر‏:‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله، علام نبايعك‏؟‏ قال‏:‏

‏(‏على السمع والطاعة في النشاط والكسل‏.‏

وعلى النفقة في العسر واليسر‏.‏

وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم‏.‏

وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليكم، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة‏)‏‏.‏

وفي رواية كعب ـ التي رواها ابن إسحاق ـ البند الأخير فقط من هذه البنود، ففيه‏:‏ قال كعب‏:‏ فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال‏:‏ ‏(‏أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم‏)‏‏.‏ فأخذ البراء ابن مَعْرُور بيده ثم قال‏:‏ نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع أُزُرَنا منه، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الْحَلْقَة، ورثناها كابرًا عن كابر‏.‏

قال‏:‏ فاعترض القول ـ والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أبو الهيثم بن التَّيَّهَان، فقال‏:‏ يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالًا، وإنا قاطعوها ـ يعنى اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله إن ترجع إلى قومك وتدعنا‏؟‏

قال‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم‏)‏‏.

*التأكيد من خطورة البيعة :

وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الـشروع في عقدها قام رجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا في مواسم سنتى 11 و 12 من النبوة، قام أحدهما تلو الآخر؛ ليؤكدا للقوم خطورة المسئولية، حتى لا يبايعوه إلا على جلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية، ويتأكدا من ذلك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نَضْلَة‏:‏ هل تدورن علام تبايعون هذا الرجل‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس‏.‏ فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهََكَتْ أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة‏.‏ وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخـرة‏.‏

قالوا‏:‏ فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجنة‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه‏.‏

وفي رواية جابر ‏[‏قال‏]‏‏:‏ فقمنا نبايعه،فأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو أصغر السبعين ـ فقال‏:‏ رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله‏.

*عقد البيعة :

وبعد إقرار بنود البيعة، وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة، قال جابر ـ بعد أن حكى قول أسعد بن زرارة ـ قال‏:‏ فقالوا‏:‏ يا أسعد، أمِطْ عنا يدك‏.‏ فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها‏.‏
وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية في هذا السبيل وتأكد منه ـ وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير ـ فكان هو السابق إلى هذه البيعة‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده‏.‏ وبعد ذلك بدأت البيعة العامة، قال جابر‏:‏ فقمنا إليه رجلًا رجلًا فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة‏.‏
وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولًا‏.‏ ما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط‏.
*اثنا عشر نقيبًا :
وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختاروا اثنى عشر زعيمًا يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسئولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، فقال للقوم‏:‏ أخرجوا إلىّ منكم اثنى عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم‏.‏
فتم اختيارهم في الحال، وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس‏.‏وهاك أسماءهم‏:‏
نقباء الخزرج
نقباء الأوس
ولما تم اختيار هؤلاء النقباء أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقًا آخر بصفتهم رؤساء مسئولين‏.‏
قال لهم‏:‏ ‏(‏أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالـة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي‏)‏ ـ يعنى المسلمين ـ قالوا‏:‏ نعم‏.‏
شيطان يكتشف المعاهدة
ولما تم إبرام المعاهدة، وكان القوم على وشك الانفضاض، اكتشفها أحد الشياطين؛ وحيث إن هذا الاكتشاف جاء في اللحظة الأخيرة، ولم يكن يمكن إبلاغ زعماء قريش هذا الخبر سرًا، ليباغتوا المجتمعين وهم في الشعب، قام ذلك الشيطان على مرتفع من الأرض،وصاح بأنفذ صوت سمع قط‏:‏ يا أهل الجَبَاجب ـ المنازل ـ هل لكم في مُذَمَّم والصباة معه‏؟‏ قد اجتمعوا على حربكم‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا أزَبُّ العقبة، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك‏.‏ ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم‏)‏‏.
*استعداد الأنصار لضرب قريش :
وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عبادة بن نضلة‏:‏ والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا باسيافنا‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم‏)‏، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا‏.
*قريش تقدم الاحتجاج إلى رؤساء يثرب :
لما قـرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة، وساورتهم القلاقل والأحزان؛ لأنهم كانوا على معرفة تامة بعواقب مثل هذه البيعة ونتائجها بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم، فما أن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى أهل يثرب؛ ليقدم احتجاجه الشديد على هذه المعاهدة، قال الوفد‏:‏
‏(‏يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم‏)‏‏.‏
ولما كان مشركو الخزرج لا يعرفون شيئًا عن هذه البيعة؛ لأنها تمت في سرية تامة في ظلام الليل، انبعث هؤلاء المشركون يحلفون بالله‏:‏ ما كان من شيء وما علمناه، حتى أتوا عبد الله بن أبي بن سلول، فجعل يقول‏:‏ هذا باطل، وما كان هذا،وما كان قومى ليفتاتوا على بمثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني‏.‏
أما المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض، ثم لاذوا بالصمت، فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات‏.‏
ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين، فرجعوا خائبين‏.
*تأكد الخبر لدى قريش ومطاردة المبايعين :
عاد زعماء مكة وهم على شبه اليقين من كذب هذا الخبر، لكنهم لم يزالوا يَتَنَطَّسُونه ـ يكثرون البحث عنه ويدققون النظر فيه ـ حتى تأكد لديهم أن الخبر صحيح، والبيعة قد تمت فعلًا‏.‏ وذلك بعد ما نفر الحجيج إلى أوطانهم، فسارع فرسانهم بمطاردة اليثربيين، ولكن بعد فوات الأوان، إلا أنهم تمكنوا من رؤية سعد بن عبادة والمنذر ابن عمرو فطاردوهما، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فألقوا القبض عليه، فربطوا يديه إلى عنقه بنِسْع رَحْلِه، وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجرون شعره حتى أدخلوه مكة، فجاء المطعم بن عدى والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم؛ إذ كان سعد يجير لهما قوافلهما المارة بالمدينة، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعًا إلى المدينة‏.‏

هذه هي بيعة العقبة الثانية ـ التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى ـ وقد تمت في جو تعلوه عواطف الحب والولاء، والتناصر بين أشتات المؤمنين، والثقة والشجاعة والاستبسال في هذا السبيل‏.‏ فمؤمن من أهل يثرب يحنو على أخيه المستضعف في مكة، ويتعصب له،ويغضب من ظالمه، وتجيش في حناياه مشاعر الود لهذا الأخ الذي أحبه بالغيب في ذات الله‏.‏
ولم تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابرة تزول على مر الأيام، بل كان مصدرها هو الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه، إيمان لا يزول أمام أي قوة من قوات الظلم والعدوان، إيمان إذا هبت ريحه جاءت بالعجائب في العقيدة والعمل، وبهذا الإيمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر أعمالًا، ويتركوا عليها آثارًا خلا عن نظائرها الغابر والحاضر، وسوف يخلو المستقبل‏.‏ ‏ 1ـ أسعد بن زُرَارَة بن عدس‏.‏ 2ـ سعد بن الرَّبِيع بن عمرو‏.‏ 3ـ عبد الله بن رواحة بن ثعلبة‏.‏ 4ـ رافع بن مالك بن العَجْلان‏.‏ 5ـ البراء بن مَعْرُور بن صَخْر‏.‏ 6ـ عبد الله بن عمرو بن حَرَام‏.‏ 7ـ عبادة بن الصامت بن قيس‏.‏ 8 ـ سعد بن عبادة بن دُلَيْم‏.‏ 9ـ المنذر بن عمرو بن خُنَيْس‏.‏ 1ـ أُسَيْد بن حُضَيْر بن سِمَاك‏.‏ 2ـ سعد بن خَيْثَمَة بن الحارث‏.‏ 3ـ رفاعة بن عبد المنذر بن زبير‏.‏ ‏




القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 24 مايو - 13:48

*طلائـع الهجـرة :

وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة ـ وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته ـ أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن‏.‏

ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالشخص فحسب، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدرى ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان‏.‏

وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم؛ لما كانوا يحسون به من الخطر، وهاك نماذج من ذلك‏:‏

1 ـ كان من أول المهاجرين أبو سلمة ـ هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق ـ وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره‏:‏ هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه‏؟‏ علام نتركك تسير بها في البلاد‏؟‏ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم،فقالوا‏:‏ لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به‏.‏ وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة‏.‏

وكانت أم سلمة رضي الله عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غداة بالأبطح تبكى حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال‏:‏ ألا تخرجون هذه المسكينة‏؟‏ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها‏:‏ الحقى بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة ـ رحلة تبلغ حوالى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الأودية ـ وليس معها أحد من خلق الله‏.‏ حتى إذا كانت بالتَّنْعِيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء، قال‏:‏ زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة‏.‏

2 ـ وهاجر صُهَيْب بن سِنان الرومى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة قال له كفار قريش‏:‏ أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك‏؟‏ والله لا يكون ذلك‏.‏ فقال لهم صهيب‏:‏ أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فأني قد جعلت لكم مالى، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ربح صهيب، ربح صهيب‏)‏‏.‏

3 ـ وتواعد عمر بن الخطاب، وعَيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل موضعًا اسمه التَّنَاضُب فوق سَرِف يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش، وحبس عنهما هشام‏.‏

ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش ـ وأم الثلاثة واحدة، وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة ـ فقالا له‏:‏ إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فَرَقَّ لها‏.‏ فقال له عمر‏:‏ يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فأبي عياش إلا الخروج معهما ليبر قسم أمه، فقال له عمر‏:‏ أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتى هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها‏.‏

فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل‏:‏ يابن أمي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه‏؟‏ قال‏:‏ بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة نهارًا موثقًا، وقالا‏:‏ يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا‏.‏

هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علموا ذلك‏.‏ ولكن على رغم ذلك خرج الناس أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا‏.‏ وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلى ـ أقاما بأمره لهما ـ وإلا من احتبسه المشركون كرهًا، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج، وأعد أبو بكر جهازه‏.‏

روى البخاري عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين‏:‏ ‏(‏أني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابَتَيْن‏)‏ ـ وهما الحرتان ـ فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏على رِسْلِك، فأني أرجو أن يؤذن لي‏)‏‏.‏ فقال له أبو بكر‏:‏ وهل ترجو ذلك بأبي أنت‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمَر ـ وهو الخَبَطُ ـ أربعة أشهر‏.‏

*في دار الندوة ‏[‏برلمان قريش‏] :

ولما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذرارى والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج أصابتهم الكآبة والحزن، وساورهم القلق والهم بشكل لم يسبق له مثيل، فقد تجسد أمامهم خطر حقيقى عظيم، أخذ يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي‏.‏

فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من غاية قوة التأثير مع كمال القيادة والإرشاد، وما في أصحابه من العزيمة والاستقامة والفداء في سبيله، ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من القوة والمنعة، وما في عقلاء هاتين القبيلتين من عواطف السلم والصلاح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد، ولاسيما بعد أن ذاقوا مرارة الحروب الأهلية طيلة أعوام من الدهر‏.‏

كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الاستراتيجي بالنسبة إلى المحجة التجارية التى تمر بساحل البحر الأحمر من اليمن إلى الشام‏.‏ وقد كان أهل مكة يتاجرون إلى الشام بقدر ربع مليون دينار ذهب سنويًا، سوى ما كان لأهل الطائف وغيرها‏.‏ ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن في تلك الطريق‏.‏

فلا يخفي ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة الإسلامية في يثرب، ومجابهة أهلها ضدهم‏.‏

شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجح الوسائل لدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة الإسلام محمدصلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12 من شهر سبتمبر سنة 622م ـ أي بعد شهرين ونصف تقريبًا من بيعة العقبة الكبرى ـ عقد برلمان مكة ‏[‏دار الندوة‏]‏ في أوائل النهارأخطر اجتماع له في تاريخه، وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل القضاء سريعًا على حامل لواء الدعوة الإسلامية؛ وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائيًا‏.‏ وكانت الوجوه البارزة في هذا الاجتماع الخطير من نواب قبائل قريش‏:‏

1 ـ أبو جهل بن هشام، عن قبيلة بني مخزوم‏.‏

2، 3، 4ـ جبير بن مُطْعِم، وطُعَيْمَة بن عدى، والحارث بن عامر، عن بني نَوْفَل بن عبد مناف‏.‏

5، 6، 7ـ شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، عن بني عبد شمس بن عبد مناف‏.‏

8 ـ النَّضْر بن الحارث، عن بني عبد الدار‏.‏

9، 10، 11ـ أبو البَخْتَرِى بن هشام، وزَمْعَة بن الأسود، وحَكِيم بن حِزَام، عن بني أسد بن عبد العزى‏.‏

12، 13ـ نُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج، عن بني سهم‏.‏

14ـ أمية بن خَلَف، عن بني جُمَح‏.‏

ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بَتٌّ له، ووقف على الباب، فقالوا‏:‏ من الشيخ‏؟‏ قال‏:‏ شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا‏.‏ قالوا‏:‏ أجل، فادخل، فدخل معهم‏.

*النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم :

وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، ودار النقاش طويلًا‏.‏ قال أبو الأسود‏:‏ نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت‏.‏

قال الشيخ النجدى‏:‏ لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به‏؟‏ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حى من العرب، ثم يسير بهم إليكم ـ بعد أن يتابعوه ـ حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيًا غير هذا‏.‏

قال أبو البخترى‏:‏ احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله ـ زهيرًا والنابغة ـ ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم‏.‏

قال الشيخ النجدى‏:‏ لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه ـ كما تقولون ـ ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره‏.‏

وبعد أن رفض البرلمان هذين الاقتراحين، قدم إليه اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه، تقدم به كبير مجرمى مكة أبو جهل بن هشام‏.‏ قال أبو جهل‏:‏ والله إن لى فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد‏.‏ قالوا‏:‏ وما هو يا أبا الحكم‏؟‏ قال‏:‏ أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نَسِيبا وَسِيطًا فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا بالعَقْل، فعقلناه لهم‏.‏

قال الشيخ النجدى‏:‏ القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره‏.‏

ووافق برلمان مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورًا‏.


هجـرة النبـي صلى الله عليه وسلم



*بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى :

من طبيعة مثل هذا الاجتماع السرية للغاية، وألا يبدو على السطح الظاهر أي حركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم أحد رائحة التآمر والخطر، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضًا ينبئ عن الشر، وكان هذا مكرًا من قريش، ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى، فخيبهم من حيث لا يشعرون‏.‏ فقد نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوحى من ربه تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال‏:‏ لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه‏.‏

وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة ـ حين يستريح الناس في بيوتهم ـ إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر‏:‏ فداء له أبي وأمى، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر‏.‏

قالت‏:‏ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏، فاستأذن،فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ ‏(‏أخرج مَنْ عندك‏)‏‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فأني قد أذن لى في الخروج‏)‏، فقال أبو بكر‏:‏ الصحبة بأبي أنت يا رسول الله‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏

ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجىء الليل‏.‏ وقد استمر في أعماله اليومية حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش‏.‏

*تطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم :

أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة التى أبرمها برلمان مكة ‏[‏دار الندوة‏]‏ صباحًا، واختير لذلك أحد عشر رئيسًا من هؤلاء الأكابر، وهم‏:‏

1ـ أبو جهل بن هشام‏.‏

2ـ الحَكَم بن أبي العاص‏.‏

3ـ عُقْبَة بن أبي مُعَيْط‏.‏

4ـ النَّضْر بن الحارث‏.‏

5ـ أُمية بن خَلَف‏.‏

6ـ زَمْعَة بن الأسود‏.‏

7ـ طُعَيْمة بن عَدِىّ‏.‏

8 ـ أبو لهب‏.‏

9ـ أبي بن خلف‏.‏

10ـ نُبَيْه بن الحجاج‏.‏

11ـ أخوه مُنَبِّه بن الحجاج‏.‏

وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعد صلاة العشاء، ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه قيام الليل، فأمر عليًا رضي الله عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى ببرده الحضرمي الأخضر، وأخبره أنه لا يصيبه مكروه‏.‏

فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء، ونام عامة الناس جاء المذكورون إلى بيته صلى الله عليه وسلم سرًا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونه نائمًا حتى إذا قام وخرج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه‏.‏

وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبًا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء‏:‏ إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها‏.‏

وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى الله عليه وسلم من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب على أمره، بيده ملكوت السموات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجـار عليه، فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏30]‏‏.‏

*الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته :

وقد فشلت قريش في خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏9‏]‏‏.‏ فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلًا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن‏.‏

وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال‏:‏ ما تنتظرون‏؟‏ قالوا‏:‏ محمدًا‏.‏ قال‏:‏ خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رءوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا‏:‏ والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم‏.‏

ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليًا، فقالوا‏:‏ والله إن هذا لمحمد نائمًا، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا‏.‏ وقام علىٌّ عن الفراش، فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ لا علم لي به‏.

*من الدار إلى الغار :

غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م‏.‏ وأتى إلى دار رفيقه ـ وأمنّ الناس عليه في صحبته وماله ـ أبي بكر رضي الله عنه‏.‏ ثم غادر منزل الأخير من باب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر‏.‏

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسى المتجه شمالًا، فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثَوْر وهو جبل شامخ، وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ بل كان يمشى في الطريق على أطراف قدميه كى يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور‏.

*إذ هما في الغار :

ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر‏:‏ والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏ما لك يا أبا بكر‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده‏.‏

وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد‏.‏ وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما‏.‏ قالت عائشة‏:‏ وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، و ‏[‏كان‏]‏ يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل ـ وهو لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِهما ـ حتى يَنْعِق بها عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه‏.‏

أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة‏.‏ فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما‏.‏

ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها‏:‏ أين أبوك‏؟‏ قالت‏:‏ لا أدرى والله أين أبي‏؟‏ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها‏.‏

وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة ‏[‏في جميع الجهات‏]‏ تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنًا من كان‏.‏

وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة‏.‏

وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال‏:‏ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت‏:‏ يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما‏)‏‏.‏

وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة‏.



القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 24 مايو - 13:49

*في الطريق إلى المدينة :
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة‏.‏
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط الليثى، وكان هاديًا خِرِّيتًا ـ ماهرًا بالطريق ـ وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الاثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1هـ / 16 سبتمبر سنة 622م ـ جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين، وكان قد قال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم عند مشاورته في البيت‏:‏ بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى راحلتى هاتين، وقرب إليه أفضلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن‏.‏ وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت‏:‏ ذات النطاقين‏.‏
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل معهما عامر بن فُهَيْرة، وأخذ بهم الدليل ـ عبد الله بن أريقط ـ على طريق السواحل‏.‏
وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالًا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا‏.‏
وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق، قال‏:‏ لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عُسْفَان، ثم سلك بهما على أسفل أمَج، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُدَيْدًا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الْخَرَّار، ثم سلك بهما ثَنَّية الْمَرَّة، ثم سلك بهما لِقْفًا، ثم أجاز بهما مَدْلَجَة لِقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجة مِجَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح مِجَاح، ثم تبطن بهما مَرْجِح من ذى الغُضْوَيْن، ثم بطن ذى كَشْر، ثم أخذ بهما على الْجَدَاجِد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعدا مَدْلَجَة تِعْهِنَ، ثم على العَبَابيد، ثم أجاز بهما الفَاجَة، ثم هبط بهما الْعَرْج، ثم سلك بهما ثنية العَائِر ـ عن يمين رَكُوبة ـ حتى هبط بهما بطن رِئْم، ثم قدم بهما على قُباء‏.‏
وهاك بعض ما وقع في الطريق
1ـ روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال‏:‏ أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة، لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانًا بيدى، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت‏:‏ نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له‏:‏ لمن أنت يا غلام‏؟‏ فقال‏:‏ لرجل من أهل المدينة أو مكة‏.‏ قلت‏:‏ أفي غنمك لبن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت‏:‏ أفتحلب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فأخذ شاة، فقلت‏:‏ انفض الضرع من التراب والشعر والقَذَى، فحلب في قعب كُثْبة من لبن، ومعى إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم، يرتوى منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت‏:‏ اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال‏:‏ ‏(‏ألم يأن للرحيل‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏ فارتحلنا‏.‏
2ـ وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفًا للنبى صلى الله عليه وسلم، وكان شيخًا يعرف، ونبى الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول‏:‏ من هذا الرجل الذي بين يديك‏؟‏ فيقول‏:‏ هذا الرجل يهدينى الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعنى به الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير‏.‏
3ـ وفي اليوم الثاني أو الثالث مر بخيمتى أم مَعْبَد الخزاعية، وكان موقعهما بالمُشَلَّل من ناحية قُدَيْد على بعد نحو 130 كيلو مترًا من مكة، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقى من مر بها، فسألاها‏:‏ هل عندها شيء‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم، القِرَى والشاء عازب، وكانت سَنَةٌ شَهْباء‏.‏
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذه الشاة يا أم معبد‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال‏:‏ ‏(‏هل بها من لبن‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ هي أجهد من ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أتأذنين لى أن أحلبها‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها‏.‏ فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتَفَاجَّتْ عليه ودَرَّتْ، فدعا بإناء لها يَرْبِض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا‏.‏
فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلًا، فلما رأي اللبن عجب، فقال‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت‏؟‏ فقالت‏:‏ لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا، قال‏:‏ أني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صِفِيه لى يا أم معبد، فوصفته بصفاته الكريمة وصفًا بديعًا كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه ـ وسننقله في بيان صفاته صلى الله عليه وسلم في أواخر الكتاب ـ فقال أبو معبد‏:‏ والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا‏.‏ وأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعونه ولا يرون القائل‏:‏
جزى الله رب العرش خير جزائه ** رفيقين حَلاَّ خيمــتى أم مَعْبـَــدِ
هـمـا نزلا بالبِـــرِّ وارتحــلا بــه ** وأفلح من أمسى رفيق محمـــد
فيا لقُصَىّ مــا زَوَى الله عنكــم ** به من فعال لا يُحَاذى وسُــؤْدُد
لِيَهْنِ بني كعـب مكــان فَتاتِهـــم ** ومقعدُهــا للمؤمنـين بَمْرصَـــد
سَلُوا أختكم عن شاتهـا وإنائـهـا ** فإنكم إن تسألوا الشـاة تَشْـهَـــد
قالت أسماء‏:‏ ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه حتى خرج من أعلاها‏.‏ قالت‏:‏ فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة‏.‏
4ـ وتبعهما في الطريق سُرَاقة بن مالك‏.‏ قال سراقة‏:‏ بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومى بني مُدْلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال‏:‏ يا سراقة، أني رأيت آنفًا أسْوِدَة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه‏.‏ قال سراقة‏:‏ فعرفت أنهم هم، فقلت له‏:‏ إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى، وهي من وراء أكَمَة، فتحبسها عَلَىَّ، وأخذت رمحى، فخرجت به من ظهر البيت، فخَطَطْتُ بزُجِّهِ الأرض، وخَفَضْتُ عاليه، حتى أتيت فرسى فركبتها، فرَفَعْتُها تُقَرِّب بى حتى دنوت منهم، فعَثَرَتْ بى فرسى فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدى إلى كنانتى، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضُرُّهُمْ أم لا‏؟‏ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي ـ وعصيت الأزلام ـ تُقَرّبُ بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ـ سَاخَتْ يدا فرسى في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تَكَدْ تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسى حتى جئتهم، ووقع في نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له‏:‏ إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يَرْزَأني، ولم يسألأني إلا أن قال‏:‏ ‏(‏أَخْفِ عنا‏)‏، فسألته أن يكتب لى كتاب أمْنٍ، فأمر عامر بن فُهَيْرة، فكتب لى في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وفي رواية عن أبي بكر قال‏:‏ ارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك بن جُعْشُم، على فرس له، فقلت‏:‏ هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏40‏]‏‏.‏
ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول‏:‏ قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ها هنا‏.‏ وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما‏.‏
5 ـ وفي الطريق لقى النبي صلى الله عليه وسلم بُريْدَة بن الحُصَيْب الأسلمى ومعه نحو ثمانين بيتًا، فأسلم وأسلموا، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحُد‏.‏
وعن عبد الله بن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير، فركب بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم، فلقى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له‏:‏ ‏(‏ممن أنت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ من أسلم، فقال‏:‏ لأبي بكر‏:‏ سلمنا، ثم قال‏:‏ ‏(‏مِنْ بني مَنْ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ من بني سهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏خرج سهمك‏)‏
6ـ ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أوْس تميم بن حَجَر أو بأبي تميم أوس بن حجر الأسلمى، بقحداوات بين الجُحْفَة وهَرْشَى ـ بالعرج ـ وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره، فكان هو وأبو بكر على جمل واحد، فحمله أوس على فحل من إبله، وبعث معهما غلامًا له اسمه مسعود، وقال‏:‏ اسلك بهما حيث تعلم من محارم الطريق ولا تفارقهما، فسلك بهما الطريق حتى أدخلهما المدينة، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسعودًا إلى سيده، وأمره أن يأمر أوسًا أن يسم إبله في أعناقها قيد الفرس، وهو حلقتان، ومد بينهما مدًا، فهي سمتهم‏.‏ ولما أتى المشركون يوم أحد أرسل أوس غلامه مسعود بن هُنَيْدَة من العَرْج على قدميه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بهم‏.‏ ذكره ابن مَاكُولا عن الطبرى، وقد أسلم بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يسكن العرج‏.‏
7ـ وفي الطريق ـ في بطن رِئْم ـ لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وهو في ركب من المسلمين، كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بياضًا‏.‏
* النزول بقباء:
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة ـ وهي السنة الأولى من الهجرة ـ الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء‏.‏
قال عروة بن الزبير‏:‏ سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أَوْفي رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته‏:‏ يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح‏.‏ وتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة‏.‏
قال ابن القيم‏:‏ وسُمِعت الوَجْبَةُ والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحى ينزل عليه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏4‏]‏‏.‏
قال عروة بن الزبير‏:‏ فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول‏.‏ فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحىى ـ وفي نسخة‏:‏ يجىء ـ أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك‏.‏
وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأي اليهود صدق بشارة حَبْقُوق النبي‏:‏ إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران‏.‏
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل‏:‏ بل على سعد بن خَيْثَمَة، والأول أثبت‏.‏
ومكث على بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاثًا حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميه حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهَدْم‏.‏
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام‏:‏ الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس‏.‏ وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس ـ يوم الجمعة ـ ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادى، وكانوا مائة رجل‏.
*الدخول في المدينة :
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل المدينة ـ ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصرًا ـ وكان يومًا مشهودًا أغر، فقد ارتجت البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح، وتغنت بنات الأنصار بغاية الفرح والسرور‏:‏
طـلـع الــبـدر عـلـينا **مـن ثـنيــات الـوداع
وجـب الشـكـر علـينا ** مـــا دعــا لـلـه داع
أيـهـا المبــعــوث فـينا ** جـئـت بـالأمـر المطاع
والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته‏:‏ هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم‏:‏ ‏(‏خلوا سبيلها فإنها مأمورة‏)‏، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوى اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلًا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار ـ أخواله صلى الله عليه وسلم ـ وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله، يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحـله، فأدخله بيته،فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏المرء مع رحله‏)‏، وجـاء أسعد بن زرارة فأخـذ بزمام راحلته، فكانت عنــده‏.‏
وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبى الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أي بيوت أهلنا أقرب‏؟‏‏)‏ فقال أبو أيوب‏:‏ أنا يا رسول الله، هذه دارى، وهذا بأبي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فانطلق فهيئ لنا مقيلًا‏)‏، قال‏:‏ قوما على بركة الله‏.‏
وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَوْدَة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر‏.‏
قالت عائشة‏:‏ وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، فكان بُطْحَان يجرى نَجْلًا، أي ماءً آجِنًا‏.‏
وقالت‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت‏:‏ يا أبه كيف تجدك‏؟‏ ويا بلال كيف تجدك‏؟‏ قالت‏:‏ فكان أبو بكر إذا أخذته الحُمَّى يقول‏:‏
كل امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ** والموت أدنى من شِرَاك نَعْلِه
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول‏:‏
ألا ليت شِعْرِى هل أبيتَنَّ ليلة ** بـوَادٍ وحـولى إذْخِرٌ وجَلِيـــلُ
وهل أردْن يومــًا ميـاه مِجَنَّة ** وهل يَبْدُوَنْ لى شامة وطَفِيلُ
قالت عائشة‏:‏ فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء‏)‏‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجُحْفَة‏)‏‏.‏
وقد استجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فأرى في المنام أن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بالمَهْيَعَة، وهي الجحفة‏.‏ وكان ذلك عبارة عن نقل وباء المدينة إلى الجحفة، وبذلك استراح المهاجرون عما كانوا يعانونه من شدة مناخ المدينة‏.‏
إلى هنا انتهي بيان قسم من حياته صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، وهو العهد المكى‏.‏ وفيما يلى نقدم بالإيجاز عهده المدنى صلى الله عليه وسلم‏.‏ وبالله التوفيق‏.

القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف الساعي إلى الفردوس الثلاثاء 24 مايو - 15:21

جعلها الله في ميزان حسناتك اخي القعقاع
و بارك الله فيك على هذه الدروس الرائعة
الساعي إلى الفردوس
الساعي إلى الفردوس
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 110402075213a5f46f76
عدد المساهمات : 931
نقاط : 6200
السٌّمعَة : 2
تاريخ التسجيل : 20/02/2011
العمر : 55
الموقع : الجزائر

https://hmsat-islam.yoo7.com/profile?mode=editprofile

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الأربعاء 25 مايو - 15:02


وفيكم يبارك الله
اخى فى الله
الساعى الى الفردوس


السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 12714153934

القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الأربعاء 25 مايو - 15:16


العهد المدني عهد الدعوة والجهاد والنجاح



*مراحل الدعوة والجهاد في العهد المدني :

يمكن تقسيم العهد المدني إلى ثلاث مراحل‏:‏

1 ـ مرحلة تأسيس المجتمع الإسلامي، وتمكين الدعوة الإسلامية، وقد أثيرت في هذه المرحلة القلاقل والفتن من الداخل، وزحف فيها الأعداء من الخارج؛ ليستأصلوا شأفة المسلمين، ويقلعوا الدعوة من جذورها‏.‏ وقد انتهت هذه المرحلة بتغلب المسلمين وسيطرتهم على الموقف مع عقد صلح الحديبية في ذى القعدة سنة ست من الهجرة‏.‏

2 ـ مرحلة الصلح مع العدو الأكبر، والفراغ لدعوة ملوك الأرض إلى الإسلام، وللقضاء على أطراف المؤامرات‏.‏ وقد انتهت هذه المرحلة بفتح مكة المكرمة في رمضان سنة ثمان من الهجرة‏.‏

3 ـ مرحلة استقبال الوفود، ودخول الناس في دين الله أفواجًا‏.‏ وقد امتدت هذه المرحلة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة‏.‏

*سكان المدينة وأحوالهم عند الهجرة :

لم يكن معنى الهجرة التخلص والفرار من الفتنة فحسب، بل كانت الهجرة تعنى مع هذا تعاونًا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن، ولذلك أصبح فرضًا على كل مسلم يقدر على الهجرة أن يهاجر ويسهم في بناء هذا الوطن الجديد، ويبذل جهده في تحصينه ورفعة شأنه‏.‏

ولاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والقائد والهادى في بناء هذا المجتمع، وكانت إليه أزمة الأمور بلا نزاع‏.‏

والذين قابلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كانوا على ثلاثة أصناف، يختلف أحوال كل واحد منها بالنسبة إلى الآخر اختلافًا واضحًا، وكان يواجه بالنسبة إلى كل صنف منها مسائل عديدة غير المسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى الآخر‏.‏

وهذه الأصناف الثلاثة هي‏:‏

1 ـ أصحابه الصفوة الكرام البررة رضي الله عنهم‏.‏

2 ـ المشركون الذين لم يؤمنوا بعد، وهم من صميم قبائل المدينة‏.‏

3 ـ اليهــود‏.‏

أ ـ والمسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى أصحابه هو أن ظروف المدينة بالنسبة إليهم كانت تختلف تمامًا عن الظروف التي مروا بها في مكة، فهم في مكة وإن كانت تجمعهم كلمة جامعة وكانوا يستهدفون هدفًا واحدًا، إلا أنهم كانوا متفرقين في بيوتات شتى، مقهورين أذلاء مطرودين، لم يكن لهم من الأمر شيء، وإنما كان الأمر بيد أعدائهم في الدين، فلم يكن هؤلاء المسلمون يستطيعون أن ينشئوا مجتمعًا إسلاميًا جديدًا بمواده التي لا يستغنى عنها أي مجتمع إنسإني في العالم؛ ولذلك نرى السور المكية تقتصر على تفصيل المبادئ الإسلامية، وعلى التشريعات التي يمكن العمل بها لكل فرد وحده، وعلى الترغيب في البر والخير ومكارم الأخلاق والترهيب عن الرذائل والدنايا‏.‏

أما في المدينة فكان أمر المسلمين بأيديهم منذ أول يوم، ولم يكن يسيطر عليهم أحد من الناس، وهذا يعنى أنهم قد آن لهم أن يواجهوا مسائل الحضارة والعمران، والمعيشة والاقتصاد، والسياسة والحكومة، والسلم والحرب، وأن تفصل لهم مسائل الحلال والحرام، والعبادة والأخلاق، وما إلى ذلك من شئون الحياة‏.‏

أي آن للمسلمين أن يكونوا مجتمعًا إسلاميًا يختلف في جميع مراحل الحياة عن المجتمع الجاهلي، ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العالم الإنساني، ويكون ممثلًا للدعوة الإسلامية التي عانى لها المسلمون ألوانًا من النكال والعذاب طيلة عشر سنوات‏.‏

ولا يخفي أن تكوين أي مجتمع على هذا النمط لا يمكن أن يستتب في يوم واحد، أو شهر واحد، أو سنة واحدة، بل لابد له من زمن طويل يتكامل فيه التشريع والتقنين والتربية والتثقيف والتدريب والتنفيذ شيئًا فشيئًا، وكان الله كفيلًا بهذا التشريع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا بتنفيذه والإرشاد إليه، وبتربية المسلمين وتزكيتهم وفق ذلك ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2]‏‏.‏

وكان الصحابة رضي الله عنهم مقبلين عليه بقلوبهم،يتحلون بأحكامه،ويستبشرون بها ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2]‏‏.‏ وليس تفصيل هذه المسائل كلها من مباحث موضوعنا، فنقتصر منها على قدر الحاجة‏.‏

وكان هذا أعظم ما واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمسلمين، وهو الهدف الأسمى والمطلب النبيل المقصود من الدعوة الإسلامية والرسالة المحمدية، ومعلوم أنه ليس بقضية طارئة تطلب الاستعجال، بل هي قضية أصيلة تحتاج إلى آجال‏.‏ نعم، كانت هناك قضايا طارئة تطلب الحل العاجل والحكيم، أهمها أن المسلمين كانوا على قسمين‏:‏

قسم كانوا في أرضهم وديارهم وأموالهم، لا يهمهم من ذلك إلا ما يهم الرجل وهو آمن في سِرْبِـه، وهم الأنصار، وكان بينهم تنافر مستحكم وعداء مزمن منذ أمد بعيد‏.‏

وقسم آخر فاتهم كل ذلك، ونجوا بأنفسهم إلى المدينة، وهم المهاجرون، فلم يكن لهم ملجأ يأوون إليه، ولا عمل يكسبون به ما يسد حاجتهم، ولا مال يبلغون به قَوَامًا من العيش، وكان عدد هؤلاء اللاجئين غير قليل، ثم كانوا يزيدون يومًا فيوما؛ إذ كان قد أوذن بالهجرة لكل من آمن بالله ورسوله‏.‏ ومعلوم أن المدينة لم تكن على ثروة طائلة فتزعزع ميزانها الاقتصادى، وفي هذه الساعة الحرجة قامت القوات المعادية للإسلام بشبه مقاطعة اقتصادية، قَلَّت لأجلها المستوردات وتفاقمت الظروف‏.‏

ب ـ أما القوم الثاني ـ وهم المشركون من صميم قبائل المدينة ـ فلم تكن لهم سيطرة على المسلمين، وكان منهم من يتخالجه الشكوك ويتردد في ترك دين الآباء، ولكن لم يكن يبطن العداوة والكيد ضد الإسلام والمسلمين، ولم تمض عليهم مدة طويلة حتى أسلموا وأخلصوا دينهم لله‏.‏

وكان فيهم من يبطن شديد الإحن والعداوة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولكن لم يكن يستطيع أن يناوئهم، بل كان مضطرًا إلى إظهار الودّ والصفاء نظرًا إلى الظروف، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي، فقد كانت الأوس والخزرج اجتمعوا على سيادته بعد حرب بُعَاث ـ ولم يكونوا اجتمعوا على سيادة أحد قبله ـ وكانوا قد نظموا له الخَرْز، ليُتَوِّجُوه ويُمَلّكُوه، وكان على وشك أن يصير ملكًا على أهل المدينة إذ بوغت بمجىء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصراف قومه عنه إليه، فكان يرى أنه استلبه الملك، فكان يبطن شديد العداوة ضده، ولما رأي أن الظروف لا تساعده على شركه، وأنه سوف يحرم بقايا العز والشرف وما يترتب عليهما من منافع الحياة الدنيا أظهر الإسلام بعد بدر، ولكن بقى مستبطنًا الكفر، فكان لا يجد مجالًا يكيد فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين إلا ويأتيه، وكان أصحابه ـ من الرؤساء الذين حرموا المناصب المرجوة في ملكه ـ يساهمونه ويدعمونه في تنفيذ خططه، وربما كانوا يتخذون بعض الشباب وسذجة المسلمين عميلًا لتنفيذ خطتهم من حيث لا يشعر‏.‏

جـ ـ أما القوم الثالث ـ وهم اليهود ـ فإنهم كانوا قد انحازوا إلى الحجاز زمن الاضطهاد الأشورى والروماني كما أسلفنا، وكانوا في الحقيقة عبرانيين، ولكن بعد الانسحاب إلى الحجاز اصطبغوا بالصبغة العربية في الزى واللغة والحضارة، حتى صارت أسماؤهم وأسماء قبائلهم عربية، وحتى قامت بينهم وبين العرب علاقة الزواج والصهر، إلا أنهم احتفظوا بعصبيتهم الجنسية، ولم يندمجوا في العرب قطعًا، بل كانوا يفتخرون بجنسيتهم الإسرائيلية ـ اليهودية ـ وكانوا يحتقرون العرب احتقارًا بالغًا وكانوا يرون أن أموال العرب مباحة لهم، يأكلونها كيف شاءوا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏‏.‏ ولم يكونوا متحمسين في نشر دينهم، وإنما جل بضاعتهم الدينية هي‏:‏ الفأل والسحر والنفث والرقية وأمثالها، وبذلك كانوا يرون أنفسهم أصحاب علم وفضل وقيادة روحانية‏.‏

وكانوا مَهَرَةً في فنون الكسب والمعيشة، فكانت في أيديهم تجارة الحبوب والتمر والخمر والثياب، كانوا يستوردون الثياب والحبوب والخمر، ويصدرون التمر، وكانت لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، فكانوا يأخذون المنافع من عامة العرب أضعافًا مضاعفة، ثم لم يكونوا يقتصرون على ذلك، بل كانوا أكالين للربا، يعطون القروض الطائلة لشيوخ العرب وساداتهم؛ ليكسبوا بها مدائح الشعراء والسمعة الحسنة بين الناس بعد إنفاقها من غير جدوى ولا طائلة، وكانوا يرتهنون لها أرض هؤلاء الرؤساء وزروعهم وحوائطهم، ثم لا يلبثون إلا أعوامًا حتى يتملكونها‏.‏

وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتو وفساد؛ يلقون العداوة والشحناء بين القبائل العربية المجاورة، ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي لم تكن تشعره تلك القبائل، فكانت تتطاحن في حروب، ولم تكد تنطفئ نيرانها حتى تتحرك أنامل اليهود مرة أخرى لتؤججها من جديد‏.‏ فإذا تم لهم ذلك جلسوا على حياد يرون نتائج هذا التحريض والإغراء، ويستلذون بما يحل بهؤلاء المساكين ـ العرب ـ من التعاسة والبوار، ويزودونهم بقروض ثقيلة ربوية حتى لا يحجموا عن الحرب لعسر النفقة‏.‏ وبهذا التدبير كانوا يحصلون على فائدتين كبيرتين‏:‏ هما الاحتفاظ على كيانهم اليهودى، وإنفاق سوق الربا؛ ليأكلوه أضعافًا مضاعفة، ويكسبوا ثروات طائلة‏.‏

وكانت في يثرب منهم ثلاث قبائل مشهورة‏:‏

1ـ بنو قَيْنُقَاع ‏:‏ وكانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم داخل المدينة‏.‏

2ـ بنو النَّضِير‏:‏ وكانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم بضواحى المدينة‏.‏

3ـ بنو قُرَيْظة‏:‏ وكانوا حلفاء الأوس، وكانت ديارهم بضواحى المدينة‏.‏

وهذه القبائل هي التي كانت تثير الحروب بين الأوس والخزرج منذ أمد بعيد، وقد ساهمت بأنفسها في حرب بُعَاث، كل مع حلفائها‏.‏

وطبعًا فإن اليهود لم يكن يرجى منهم أن ينظروا إلى الإسلام إلا بعين البغض والحقد؛ فالرسول لم يكن من أبناء جنسهم حتى يُسَكِّن جَأْشَ عصبيتهم الجنسية التي كانت مسيطرة على نفسياتهم وعقليتهم، ودعوة الإسلام لم تكن إلا دعوة صالحة تؤلف بين أشتات القلوب، وتطفئ نار العداوة والبغضاء، وتدعو إلى التزام الأمانة في كل الشئون، وإلى التقيد بأكل الحلال من طيب الأموال، ومعنى كل ذلك أن قبائل يثرب العربية ستتآلف فيما بينها، وحينئذ لابد من أن تفلت من براثن اليهود، فيفشل نشاطهم التجارى، ويحرمون أموال الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتهم، بل يحتمل أن تتيقظ تلك القبائل، فتدخل في حسابها الأموال الربوية التي أخذتها اليهود، وتقوم بإرجاع أرضها وحوائطها التي أضاعتها إلى اليهود في تأدية الربا‏.‏

كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعوة الإسلام تحاول الاستقرار في يثرب؛ ولذلك كانوا يبطنون أشد العداوة ضد الإسلام، وضد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل يثرب، وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إلا بعد حين‏.‏

ويظهر ذلك جليًا بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها قال ابن إسحاق‏:‏ حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت‏:‏ كنت أحَبَّ ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذإني دونه‏.‏ قالت‏:‏ فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي؛ حيى بن أخطب، وعمى أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسِين، قالت‏:‏ فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت‏:‏ فأتيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى‏.‏ قالت‏:‏ فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلىَّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم‏.‏ قالت‏:‏ وسمعت عمى أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب‏:‏ أهو هو‏؟‏ قال‏:‏ نعم والله، قال‏:‏ أتعرفه وتثبته‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فما في نفسك منه‏؟‏ قال‏:‏ عداوته والله ما بقيت‏.‏

ويشهد بذلك أيضًا ما رواه البخاري في إسلام عبد الله بن سَلاَم رضي الله عنه فقد كان حبرًا من فطاحل علماء اليهود، ولما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلًا، وألقى إليه أسئلة لا يعلمها إلا نبى، ولما سمع ردوده صلى الله عليه وسلم عليها آمن به ساعته ومكانه، ثم قال له‏:‏ إن اليهود قوم بُهْتٌ، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتُونِى عندك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت اليهود، ودخل عبد الله بن سلام البيت‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أي رجل فيكم عبد الله بن سلام‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا ـ وفي لفظ‏:‏ سيدنا وابن سيدنا‏.‏ وفي لفظ آخر‏:‏ خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفرأيتم إن أسلم عبد الله‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ أعاذه الله من ذلك ‏(‏مرتين أو ثلاثا‏)‏، فخرج إليهم عبد الله فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، قالوا‏:‏ شرّنا وابن شرّنا، ووقعوا فيه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ فقال‏:‏ يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق‏.‏ فقالوا‏:‏ كذبت‏.‏

وهذه أول تجربة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود في أول يوم دخل فيه المدينة‏.‏

وهذه هي الظروف والقضايا الداخلية التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل بالمدينة‏.‏

أما من ناحية الخارج فكان يحيط بها من يدين بدين قريش، وكانت قريش ألـد عـدو للإسلام والمسلمين، جربت عليهم طوال عشرة أعوام ـ حينما كان المسلمون تحت أيديها ـ كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة والتعذيب، والمقاطعة والتجويع، وأذاقتهم التنكيلات والويلات، وشنت عليهم حربًا نفسية مضنية مع دعاية واسعة منظمة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة صادرت أرضهم وديارهم وأموالهم، وحالت بينهم وبين أزواجهم وذرياتهم، بل حبست وعذبت من قدرت عليه، ولم تقتصر على هذا، بل تآمرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، والقضاء عليه وعلى دعوته، ولم تَأْلُ جهدًا في تنفيذ هذه المؤامرة‏.‏ فكان من الطبيعى جدًا، حينما نجا المسلمون منها إلى أرض تبعد نحو خمسمائة كيلو متر، أن تقوم بدورها السياسى والعسكرى، لما لها من الصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بين أوساط العرب بصفتها ساكنة الحرم ومجاورة بيت الله وسدنته، وتغرى غيرها من مشركي الجزيرة ضد أهل المدينة، وفعلًا قامت بذلك كله حتى صارت المدينة محفوفة بالأخطار، وفي شبه مقاطعة شديدة قَلَّتْ لأجلها المستوردات، في حين كان عدد اللاجئين إليها يزيد يومًا بعد يوم، وبذلك كانت ‏[‏حالة الحرب‏]‏ قائمة بين هؤلاء الطغاة من أهل مكة ومن دان دينهم، وبين المسلمين في وطنهم الجديد‏.‏

وكان من حق المسلمين أن يصادروا أموال هؤلاء الطغاة كما صودرت أموالهم، وأن يديلوا عليهم من التنكيلات بمثل ما أدالوا بها، وأن يقيموا في سبيل حياتهم العراقيل كما أقاموها في سبيل حياة المسلمين، وأن يكيلوا لهؤلاء الطغاة صاعًا بصاع حتى لا يجدوا سبيلًا لإبادة المسلمين واستئصال خضرائهم‏.‏

وهذه هي القضايا والمشاكل الخارجية التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما ورد المدينة، وكان عليه أن يعالجها بحكمة بالغة حتى يخرج منها مكللًا بالنجاح‏.‏

وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالجة كل القضايا أحسن قيام، بتوفيق من الله وتأييده، فعامل كل قوم بما كانوا يستحقونه من الرأفة والرحمة أو الشدة والنكال،وذلك بجانب قيامه بتزكية النفوس وتعليم الكتاب والحكمة، ولا شك أن جانب التزكية والتعليم والرأفة والرحمة كان غالبًا على جانب الشدة والعنت ـ حتى عاد الأمر إلى الإسلام وأهله في بضع سنوات، وسيجد القارئ كل ذلك جليًا في الصفحات الآتية‏.‏

]*المرحلة الأولى: بناء مجتمع جديد :

قد أسلفنا أن نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجار كان يوم الجمعة ‏[‏12 ربيع الأول سنة 1 هـ/ الموافق 27 سبتمبر سنة 622م‏]‏، وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب، وقال‏:‏ ‏(‏هاهنا المنزل إن شاء الله‏)‏، ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب رضي الله عنه

*بناء المسجد النبوي :

وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو بناء المسجد النبوي، واختار له المكان الذي بركت فيه ناقته صلى الله عليه وسلم، فاشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وأسهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبِن والحجارة ويقول‏:‏

‏(‏اللهم لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخرة ** فاغْفِرْ للأنصار والمُهَاجِرَة‏)‏

وكان يقول‏:‏

‏(‏هذا الحِمَالُ لا حِمَال خَيْبَر ** هــذا أبـَــرُّ رَبَّنَا وأطْـهَر‏)‏

وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في العمل، حتى إن أحدهم ليقول‏:‏

لئن قَعَــدْنا والنبي يَعْمَل ** لـذاك مِــنَّا العَمَــلُ المُضَلَّل

وكانت في ذلك المكان قبور للمشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غَرْقَد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخَرِب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعُمُده الجذوع، وفرشت أرضه بالرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبًا من ثلاثة أذرع‏.‏

وبني بجانبه بيوتًا بالحجر واللبن، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب‏.‏

ولم يكن المسجد موضعًا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقى وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشئون وبث الانطلاقات، وبرلمان لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية‏.‏

وكان مع هذا كله دارًا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون‏.‏

وفي أوائل الهجرة شرع الأذان، تلك النغمة العلوية التي تدوى في الآفاق، وتهز أرجاء الوجود، تعلن كل يوم خمس مرات بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتنفي كل كبرياء في الكون وكل دين في الوجود، إلا كبرياء الله، والدين الذي جاء به عبده محمد رسول الله‏.‏ وقد تشرف برؤيته في المنام أحد الصحابة الأخيار عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه فأقره النبي صلى الله عليه وسلم وقد وافقت رؤياه رؤيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والقصة بكاملها مروية في كتب السنة والسيرة‏.‏

*المؤاخاة بين المسلمين :

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بجانب قيامه ببناء المسجد‏:‏ مركز التجمع والتآلف، قام بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، قال ابن القيم‏:‏ ثم أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلًا، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، أخي بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوى الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏ رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه أخي بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية‏.‏‏.‏‏.‏ والثبت الأول، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة فيما بينهم، بخلاف المهاجرين مع الأنصار‏.‏ اهـ‏.‏

ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، وتسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يكون أساس الولاء والبراء إلا الإسلام‏.‏

وقد امتزجت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة وإسداء الخير في هذه الأخوة، وملأت المجتمع الجديد بأروع الأمثال‏.‏

روى البخاري‏:‏ أنهم لما قدموا المدينة أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد ابن الربيع، فقال لعبد الرحمن‏:‏ إني أكثر الأنصار مالًا، فاقسم مالى نصفين، ولى امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال‏:‏ بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم‏؟‏ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقِطٍ وسَمْنٍ، ثم تابع الغدو، ثم جاء يومًا وبه أثر صُفْرَة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَهْيَمْ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ تزوجت‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كم سقت إليها‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نواة من ذهب‏.‏

وروى عن أبي هريرة قال‏:‏ قالت الأنصار للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، فقالوا‏:‏ فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة‏.‏ قالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏

وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم المهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء، وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيم أودهم‏.‏

وحقًا فقد كانت هذه المؤاخاة حكمةً فذةً، وسياسةً حكيمةً، وحلًا رشيدًا لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون، والتي أشرنا إليها‏.

*ميثاق التحالف الإسلامي :

وكما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد هذه المؤاخاة بين المؤمنين، قام بعقد معاهدة أزاح بها ما كان بينهم من حزازات في الجاهلية، وما كانوا عليه من نزعات قبلية جائرة، واستطاع بفضلها إيجاد وحدة إسلامية شاملة‏.‏ وفيما يلى بنودها ملخصًا‏:‏

هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم‏:‏

1ـ إنهم أمة واحدة من دون الناس‏.‏

2ـ المهاجرون من قريش على رِبْعَتِهم يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدُون عَانِيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين‏.‏

3ـ وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل‏.‏

4ـ وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دَسِيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين‏.‏

5ـ وإن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم‏.‏

6ـ ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر‏.‏

7ـ ولا ينصر كافرًا على مؤمن‏.‏

8 ـ وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم‏.‏

9ـ وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم‏.‏

10ـ وإن سلم المؤمنين واحدة؛ لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم‏.‏

11 ـ وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله‏.‏

12 ـ وإنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن‏.‏

13 ـ وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول‏.‏

14 ـ وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه‏.‏

15 ـ وإنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صَرْف ولا عَدْل‏.‏

16 ـ وإنكم مهما اختلفـتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله ـ عز وجل ـ وإلى محمـد صلى الله عليه وسلم‏.

*أثر المعنويات في المجتمع :

بهذه الحكمة وبهذا التدبير أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد مجتمع جديد، كانت صورته الظاهرة بيانا وآثارًا للمعاني التي كان يتمتع بها أولئك الأمجاد بفضل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم بالتعليم والتربية، وتزكية النفوس، والحث على مكارم الأخلاق، ويؤدبهم بآداب الود والإخاء والمجد والشرف والعبادة والطاعة‏.‏

سأله رجل‏:‏ أي الإسلام خير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف‏)‏‏.‏

قال عبد الله بن سلام‏:‏ لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جئت، فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما قال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام‏)‏

وكان يقول‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه‏)‏

ويقول‏:‏ ‏(‏المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏)‏

ويقول‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه‏)‏

ويقول‏:‏ ‏(‏المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله‏)‏‏.‏

ويقول: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ويقول: (لا تباغضوا، ولا تحاسدون، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام). ويقول: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) ويقول: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). ويقول: (ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جانبه). ويقول: (سِباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر). وكان يجعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ويعدها شعبة من شعب الإيمان . ويقول: (الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار). ويقول: (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عُرى كساه الله من خُضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيم المختوم) ويقول: (اتقوا الناء ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة). وبجانب هذا كان يحث حثاً شديداً على الاستعفاف عن المسألة، ويذكر فضائل الصبر والقناعة، فكان يعد المسألة كدوحاً أو خدوشاً أو خموشاً في وجه السائل اللهم إلا إذا كان مضطراً. كما كان يبين لهم ما في العبادات من الفضائل والأجر والثواب عند الله، وكان يربطهم بالوحي النازل عليه من المساء ربطاً مؤثقاً، فكان يقرؤه عليهم ويقرؤونه: لتكون هذه الدراسة إشعاراً بما عليهم من حقوق الدعوة وتبعات الرسلة، فضلاً عن ضرورة الفهم والتدبر. وهكذا هذب تفكيرهم، وربع معنوياتهم، وأيقظ مواهبهم، وزودهم بأعلى القيم والأقدار، حتى وصولا إلى أعلى قمة من الكمال عرفت في تاريخ البشر بعد الأنبياء. يقول عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة؛ وأبرها قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، وابتعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. ثم إن هذا الرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يتمتع من الصفات المعنوية والظاهرة، ومن الكمالات المواهب، والأمجاد والفضائل، ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال بما جعتله تهوى إليه الأفئدة، وتتفانى عليه النفوس، فما يتكلم بكلمة إلا ويبادر صحابته رضي الله عنهم إلى امتثالها، وما يصدر من إرشاد أو توجيه إلا ويتسابقون إلى العمل به. بمثل هذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني في المدينة مجتمعاً جديداً أروع وأشرف مجتمع عرفة التاريخ، وأن يضع لمشاكل هذا المجتمع حلاً تنفست له الإنسانية الصعداء، بعد أن كانت قد تعبت في غياهب الزمان ودياجير الظلمات. وبمثل هذه المعنويات الشامخة تكاملت عناصر المجتمع الجديد الذي واجه كل تيارات الزمان حتى صرف وجهتها، وحول مجرى التاريخ والأيام.


القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الأربعاء 25 مايو - 15:18

*معاهدة مع اليهود :

بعد أن أرسى رسول الله صلى الله وعليه وسلم قواعد مجتمع جديد وأمة إسلامية حديدة، بإقامة الوحدة العقدية والسياسية والنظامية بين المسلمين، بدأ بتنظيم علاقاته بغير المسلمين، وكان قصده بذلك توفير الأمن والسلام والسعادة الخير للبشرية جمعاء، مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد، فسن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في ذلك العالم الملئ بالتعصب والأغراض الفردية والعرقية‏.‏

وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود - كما أسلفنا - وهم وإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين، لكن لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد، فعقد معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة قرر لهم فيها النصح والخير، وترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال، ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام‏.‏

وفيما يلى أهم بنود هذه المعاهدة‏:

*بنود المعاهدة :

- إن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، وكذلك لغير بنى عوف من اليهود‏.‏

2-وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم‏.‏

3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‏.‏

4- وإن بينهم النصح والنصحية، والبر دون الإثم‏.‏

5- وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه‏.‏

6- وإن النصر للمظلوم‏.‏

7- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‏.‏

8-وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة‏.‏

9- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

10- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها‏.‏

11- وإن بينهم النصر على من دَهَم يثرب‏.‏‏.‏ على كل أناس حصتهم من جابنهم الذي قبلهم‏.‏

12- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم‏.‏

وبإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية، عاصمتها المدينة، ورئيسها ـ إن صح هذا التعبير ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمين‏.‏

ولتوسيع منطقة الأمن والسلام عاهد النبي صلى الله عليه وسلم قبائل أخرى في المستقبل بمثل هذه المعاهدة، حسب ما اقتضته الظروف، وسيأتي ذكر شيء عنها‏.

* الكفاح الدامي :

*استفزازات قريش واتصالهم بعبد الله بن أبي :

تقدم ما أدلى به كفار مكة من التنكيلات والويلات على المسلمين في مكة، ثم ما أتوا به من الجرائم التي استحقوا لأجلها المصادرة والقتال، عند الهجرة، ثم إنهم لم يفيقوا من غيهم ولا امتنعوا عن عدوانهم بعدها، بل زادهم غيظاً أن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمناً ومقراً بالمدنية، فكتبوا إلى عبد الله بن أبي سلول- وكان إذ ذاك مشركاً - بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة - فمعلوا أنهم كانوا قد اتفقوا عليه، وكادوا يجعلونه ملكاً على أنفسهم لولا أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وآمنوا به - كتبوا إليه وإلى أصحابه المشركين، يقولون لهم في كلمات باتة‏:‏

إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم‏.‏

وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد الله بن أبي ليمتثل أوامر إخوانه المشركين من أهل مكة - وقد كان يحقد على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لما يراه أنه استبله ملكه- يقول عبد الرحمن بن كعب‏:‏ فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال‏:‏ ‏(‏لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقالوا أبناءكم وإخوانكم‏)‏، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا‏.‏

امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن القتال إذ ذلك، لما رأي خوراً أو رشداً في أصحابه، ولكن يبدو من تصرفاته أنه كان متواطئاً مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معه اليهود، ليعينوه على ذلك، ولكن تلك هي حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تطفئ نار شرهم حينا بعد حين‏.‏

*إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام :

ثم أن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف بمكة، فقال لأمية‏:‏ انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف البيت، فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال‏:‏ يا أبا صفوان، من هذا معك‏؟‏ فقال‏:‏ هذا سعد، فقال له أبو جهل‏:‏ ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعد - ورفع صوته عليه‏:‏ أما والله لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليكم منه‏:‏ طريقك على أهل المدينة‏.


*قريش تهدد المهاجرين :

وكأن قريشاً كانت تعتزعلى شر أشد من هذا، وتفكر في القيام بنفهسا للقضاء على المسلمين، وخاصة على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولم يكن هذا مجرد وهم أو خيال، فقد تأكد لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكائد قريش وإرادتها على الشر ما كان لأجله لا يبيت إلا ساهراً، أو في حرس من الصحابة‏.‏ روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضى الله عنها قالت‏:‏ سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال‏:‏ ‏(‏ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة‏)‏، قالت‏:‏ فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال‏:‏ ‏(‏من هذا ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما جاء بك‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام‏.‏

ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي، بل كان ذلك أمراً مستمراً، فقد روى عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً حتى نزل‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس، انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل‏)‏‏.‏

ولم يكن الخطر مقتصراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يحدق بالمسلمين كافة، فقد روى أبي بن كعب، قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه‏.



*الإذان بالقتال :

في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة، وتنبئ عن قريش أنهم لا يفيقون عن غيهم ولا يمتنعون عن تمردهم بحال، أنزل الله تعالى الإذن بالقتال للمسلمين ولم يفرضه عليهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وأنزل معه آيات بين لهم فيها أن هذا الإذن إنما هو لإزاحة الباطل وإقامة شعائر الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وكان الإذن مقتصراً على قتال قريش، ثم تطور فيما بعد مع تغير الظروف حتى وصل إلى مرحلة الوجوب، وجاوز قريشاً إلى غيرهم، ولا بأس أن نذكر تلك المراحل بإيجاز قبل أن ندخل في ذكر الأحداث‏:‏

1- اعتبار مشركي قريش محاربين؛ لأنهم بدأوا بالعدوان، فحق للمسلمين أن يقاتلوهم ويصادروا أموالهم دون غيرهم من بقية مشركي العرب‏.‏

2- قتال كل من تمالأ من مشركي العرب مع قريش واتحد معهم، وكذلك كل من تفرد بالاعتداء على المسلمين من غير قريش‏.‏

3- قتال من خان أو تحيز للمشركين من اليهود الذين كان لهم عقد وميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذ ميثاقهم إليهم على سواء‏.‏

4- قتال من بادأ بعداوة المسلمين من أهل الكتاب، كالنصارى، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏

5- الكف عمن دخل في الإسلام، مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك، فلا يتعرض لنفسه وماله إلا بحق الإسلام، وحسابه على الله‏.‏

ولما نزل الإذن بالقتال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبسط سيطرته على الطريق الرئيس الذي تسلكه قريش من مكة إلى الشام في تجاراتهم، واختار لذلك خطتين‏:‏

الأولى‏:‏ عقد معاهدات الحلف أو عدم الاعتداء مع القبائل التي كانت مجاورة لهذا الطريق، أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة، وقد عقد صلى الله عليه وسلم معاهدة مع جهينة قبل الأخذ في النشاط العسكري، وكانت مساكنهم على ثلاث مراحل من المدينة، كما عقد معاهدات أخرى أثناء دورياته العسكرية، وسيأتي ذكرها‏.‏

الثانية‏:‏ إرسال البعوث واحدة تلو الأخرى إلى هذا الطريق‏.

القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 7 يونيو - 15:05



*الغزوات والسيرايا قبل بدر :


ولتنفيذ هاتين الخطتين بدأ بالتحركات العسكرية فعلاً بعد نزول الإذن بالقتال وكانت أشبه بالدوريات الاستطلاعية، وكان المطلوب منها كما أشرنا‏:‏

الاستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة‏.‏

عقد المعاهدات مع القبائل التي مساكنها على هذه الطرق‏.‏

إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم‏.‏

إنذار قريش عُقبَى طيشها، حتى تفيق عن غَيها الذي لا يزال يتوغل في أعماقها، وعلها تشعر بتفاقم الخطر على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إلى السلم، وتمتنع عن إرادة قتال المسلمين في عقر دارهم، وعن الصد عن سبيل الله، وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة، حتى يصير المسلمون أحراراً في إبلاغ رسالة الله في ربوع الجزيرة‏.‏


وفيما يلى أحوال هذه السرايا بالإيجاز‏:‏

1- سرية سيف البحر

في رمضان سنة 1 هـ، الموافق مارس سنة 623م، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فلبغوا سيف البحر من ناحية العيص، فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجني ـ وكان حليفاً للفريقين جميعاً ـ بين هؤلاء وهؤلاء حتى جحز بينهم فلم يقتتلوا‏.‏

وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبيض، وحمله أبو مرثد كَناز بن حصين الغَنَوي‏.‏


2-سرية رابغ‏:‏

في شوال سنة 1 من الهجرة، الموافق أبريل سنة 632م، بعث لها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين رجلاً من المهاجرين، فلقى أبا سفيان - وهو في مائتين - على بطن رابغ، وقد ترامي الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال‏.‏

وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمرو البهراني، وعتبه بن غزوان المارني، وكانا مسلمين خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين، وكان لواء عبيدة أبيض، وحامله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف‏.‏


3- سرية الخرار

في ذي العقدة سنة 1 هـ، الموافق مايو سنة 623م، بعث لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين رجلا يعترضون عيراً لقريش، وعهد إليه إلا يجاوز الخرار، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس‏.‏

كان لواء سعد رضى الله عنه أبيض، وحمله المقداد بن عمرو‏.‏


4-غزة الأبواء أو ودان‏:‏

في صفر سنة 2 هـ، الموافق أغسطس سنة 623م، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه في سبعين رجلاً من المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش، حتى بلغ ودان، فلم يلق كيداً، واستخلف فيها على المدينة سعد بن عبادة رضى الله عنه‏.‏

وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشى الضمري، وكان سيد بنى ضمرة في زمانه، وهذا نص المعاهدة‏:‏ ‏(‏هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمره، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله ن ما بل بحر صوفة وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه‏)‏‏.‏

وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، وكان اللواء أبيض وحامله حمزة بن عبد المطلب‏.‏


5- غزوة بواط‏:‏

في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ الموافق سبتمبر سنة 623م، خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه، يعترض عيراً لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمئة بعير، فبلغ بواطا من ناحية رضوى ولم يلق كيدا‏.‏

واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سعد بن معاذ، واللواء كان أبيض، وحامله سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه‏.‏


6-غزوة سفوان

في شهر ربيع الول سنة 2 هـ، الموافق سبتمبر سنة 623م، أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من أصحابه لمطارته، حتى بلغ وادياً يقال له‏:‏ سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزاً وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى‏.‏

واستخلف في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة، وكان اللواء أبيض، وحامله علي بن أبي طالب‏.‏


7- غزوة ذي العشيرة‏:‏

في جمادى الأولى، وجمادى الآخرة سنة 2 هـ، الموافق نوفمبر وديسمبر سنة 623هـ، خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة ويقال‏:‏ في مائتين، من المهاجرين، ولم يكره أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يعتقبونها، يعترضون عيراً لقريش، ذاهبة إلى الشام، وقد جاء الخبر بفصولها من مكة، فيها أموال لقريش فبلغ ذا العشيرة، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، فصارت سبباً لغزوة بدر الكبرى‏.‏

وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في أواخر جمادى الأولى، ورجوعه في أوائل جمادى الآخرة، على ما قاله ابن إسحاق، ولعل هذه هو سبب اختلاف أهل السير في تعيين شهر هذه الغزوة‏.‏

وفي هذه الغزوة عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بنى مدلج وحلفائهم من بنى ضمرة‏.‏

واستخلف على المدينة في هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وكان اللواء أبيض، وحامله حمزة بن عبد الملطب رضي الله عنه‏.‏


8- سرية نخلة‏:‏

في رجب سنة 2 هـ، الموافق يناير سنة 624م، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه‏.‏ فسار عبد الله ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه‏:‏ ‏(‏إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكلة والطائف، فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه‏.‏

وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة، وفيها عمرو بن الخضرمي، وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة، والحكم ابن كيسان مولى بني المغيرة‏.‏ فتشاور المسلمون وقالوا‏:‏ نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اجتمعوا على اللقاء، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أو خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام‏.‏

وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، وقال‏:‏ ‏(‏ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام‏)‏ وتوقف عن التصرف في العير والأسيرين‏.‏

ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله، وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسماً هذه الأقاويل وأن ما عليه المشروكون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم‏؟‏ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة‏؟‏ لا جرم أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتني على وقاحة ودعارة‏.‏

وبعد ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح الأسيرين، ‏,‏أدى دية المقتول إلى أوليائه‏.‏

تلكم السرايا والغزوات قبل بدر، لم يجر في احد منها سلب الأموال وقتل الرجال إلا بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز بن جابر الفهري، فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أتوه قبل ذلك من الأفاعيل‏.‏

وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقلتوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم، ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة - كما فعلت جهينة وبنو ضمرة ازدادوا حقداً وعيظاً، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل‏:‏ من إبادة المسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر‏.‏

أما المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش في شهر شعبان سنة 2 هـ، وأنزل في ذلك آيات بينات‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏190‏:‏ 193‏]‏‏.‏

ثم لم يلبث أن أنزل الله تعالى عليهم آيات من نوع آخر، يعلمهم فيها طريقة القتال، ويحثهم عليه، ويبين لهم بعض أحكامه‏:‏ ‏{‏فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏:‏ 7‏]‏‏.‏

ثم ذم الله الذين طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا الأمر بالقتال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وإيجاب القتال والحض عليه، والأمر بالاستعداد له هو عين ما كانت تقتضيه الأحوال، ولو كان هناك قائد يسبر أغوار الظروف لأمر جنده بالاستعداد لجميع الطورائ، فكيف بالرب العليم المتعال، فالظروف كانت تقتضى عراكاً دامياً بين الحق والباطل، وكانت وقعة سرية عبد الله بن جحش ضربة قاسية على غيرة المشركين وحميتهم، آلمتهم وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر‏.‏

وآيات الأمر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي، وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائيا، انظر كيف يأمر الله المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم، وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في الأساري والإثخان في الأرض حتى تضع الحرب أوزارها، هذه كلها إشارة إلى غلبة المسلمين نهائياً‏.‏ ولكن ترك كل ذلك مستوراً حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل الله‏.‏

وفي هذه الأيام - في شعبان سنة 2 هـ / فبراير 624م - أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد خلوا صفوف المسلمين لإثارة البلبلة، انكشفوا عن المسلمين ورجعوا إلى ما كانوا عليه، وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة‏.‏

ولعل في تحويل القبلة إشارة لطيفة إلى بداية دور جديد لا ينتهي إلى بعد احتلال المسلمين هذه القبلة، أو ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم، وإن كانت بأيديهم فعلا فلابد من تخليصها يوما ما إن كانوا على الحق‏.‏

وبهده الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين، واشتد شوقهم إلى الجهاد في سبيل الله، ولقاء العدو في معركة فاصلة لإعلاء كلمة الله‏.




القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 7 يونيو - 15:07



غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة



*سبب الغزوة :

سبق في ذكر غرزة العشيرة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابها من مكة إلى الشام، فلما
قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا إلى الحوراء ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة وأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر‏.‏

وكانت العير تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها‏:‏ ألف بعير موقرة بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي‏.‏ ولم يكن معها من الحرب إلا نحو أربعين رجلا‏.‏

إنها فرصة ذهبية للمسلمين ليصيبوا أهل مكة بضربة اقتصادية قاصمة، تتألم لها قلوبهم على مر العصور، لذلك أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً‏:‏ ‏(‏هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها‏)‏‏.‏

ولم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة - بدل العير- هذا الاصطدام العنيف في بدر؛ ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون أن مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا والغزوات الماضية؛ ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغروة‏

*مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات :

واستعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ـ 313، أو 314، أو 317 رجلاً ـ 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين و 61 من الأوس و 170 من الخرزج‏.‏ ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرس أو فرسان‏:‏ فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً واحد‏.‏

واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة‏.‏

ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض‏.‏

وقسم جيشه إلى كتيبتين‏:‏

1- كتيبة المهاجرين‏:‏ وأعطى رايتها علي بن أبي طالب، ويقال لها‏:‏ العقاب‏.‏

2- وكتبية الأنصار‏:‏ وأعطى رايتها سعد بن معاذ‏.‏ ـ وكانت الرايتان سوداوين ـ‏.‏

وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش - كما سبق - وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش‏.‏

وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة، حتى بلغ بئر الروحاء، فلما ارتحل منها ترك طريق مكة إلى اليسار، وانحرف ذات اليمين على النازية يريد بدراً فسلك في ناحية منه حتى جزع ودياً يقال له‏:‏ رحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، ومن هنالك بعث بسبس بن عمرو الجني وعدي بن أبي الزغباء الجهي إلى بدر يتجسسان له أخبار العير‏.

*النذير في مكة :

وأما خبر العير فإن أبا سفيان - وهو المسئول عنها - كان على غاية من الحيطة والحذر، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار، وكان يتحسس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم؛ ليمنعوه من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى مكة، فخرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد جدع أنفه وحول رحله، وشقق قميصه، وهو يقول‏:‏ يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث‏.‏‏.‏‏.‏ الغوث‏.‏

*أهل مكة يتجهزون للغزو :

فتحفز الناس سراعًا وقالوا‏:‏ أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي‏؟‏ كلا والله ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين رجلين‏:‏ إما خارج، وإما باعث مكانه رجلًا، وأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوض عنه رجلًا كان له عليه دين، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدى فلم يخرج منهم أحد‏.




*قوام الجيش المكي :

وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره، وكان معه مائة فرس وستمائة دِرْع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل ابن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يومًا تسعًا ويومًا عشرًا من الإبل‏.‏


*مشكلة قبائل بني بكر :

ولما أجمع هذا الجيش على المسير ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداوة والحرب، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف، فيكونوا بين نارين، فكاد ذلك يثنيهم، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس في صورة سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجى ـ سيد بني كنانة ـ فقال لهم‏:‏ أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه‏.




*جيش مكة يتحرك :

وحينئذ خرجوا من ديارهم، كما قال الله‏:‏ ‏{‏بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏47‏]‏، وأقبلوا ـ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بحدهم وحديدهم يحادون الله ويحادون رسوله ‏{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ‏}‏ ‏[‏ القلم‏:‏25‏]‏، وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لجرأة هؤلاء على قوافلهم‏.‏

تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في اتجاه بدر، وسلكوا في طريقهم وادى عُسْفَان، ثم قُدَيْدًا، ثم الجُحْفَة، وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبي سفيان يقول لهم فيها‏:‏ إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا‏.‏



* العير تفلت :

وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسى، ولكنه لم يزل حذرًا متيقظًا، وضاعف حركاته الاستكشافية، ولما اقترب من بدر تقدم عيره حتى لقى مَجْدِىَّ بن عمرو، وسأله عن جيش المدينة، فقال‏:‏ ما رأيت أحدًا أنكره إلا إني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما، ففته فإذا فيه النوى، فقال‏:‏ هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى عيره سريعًا، وضرب وجهها محولًا اتجاهها نحو الساحل غربًا، تاركًا الطريق الرئيسى الذي يمر ببدر على اليسار، وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة‏.




* هَمّ الجيش المكي بالرجوع، ووقوع الانشقاق فيه :

ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلًا‏:‏ والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم بها ثلاثًا، فننحر الجَزُور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القِيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يـزالون يهابوننا أبدًا‏.‏

ولكن على رغم أبي جهل ـ أشار الأخْنَس بن شَرِيق بالرجوع فعصوه،فرجع هو وبنو زُهْرَة ـ وكان حليفًا لهم، ورئيسًا عليهم في هذا النفير ـ فلم يشهد بدرًا زهرى واحد، وكانوا حوالى ثلاثمائة رجل،واغتبطت بنو زهرة بَعْدُ برأي الأخنس بن شريق، فلم يزل فيهم مطاعًا معظمًا‏.‏

وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل، وقال‏:‏ لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع‏.‏

فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة ـ وهو يقصد بدرًا ـ فواصل سيره حتى نزل قريبًا من بدر، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادى بدر‏.‏


*موقف الجيش الإسلامي في ضيق وحرج :

أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو لا يزال في الطريق بوادي ذَفِرَان ـ خبر العير والنفير، وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال لاجتناب اللقاء الدامي، وأنه لا بد من إقدام يبني على الشجاعة والبسالة، والجراءة، والجسارة، فمما لا شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيمًا لمكانة قريش العسكرية، وامتدادًا لسلطانها السياسي، وإضعافًا لكلمة المسلمين وتوهينًا لها،بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسدًا لا روح فيه، ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة‏.‏

ثم هل هناك ضمان للمسلمين بامتناع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة، حتى ينقل المعركة إلى أسوارها، ويغزو المسلمين في عقر دارهم‏؟‏ كلا‏!‏ فلو حدث من جيش المدينة نكول ما، لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم‏.




* المجلس الاستشاري :

ونظرًا إلى هذا التطور الخطير المفاجيء عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا عسكريًا استشاريًا أعلى، أشار فيه إلى الوضع الراهن، وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه وقادته‏.‏ وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس،وخافوا اللقاء الدامى،وهم الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏5، 6‏]‏، وأمــا قادة الجيش فقـام أبو بكر الصديق فقال وأحسن،ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن،ثم قام المقداد بن عمرو فقال‏:‏ يا رسول الله، امض لما أراك الله،فنحن معك،والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏ ‏{‏فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏24]‏، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له به‏.‏

وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي قادة الأنصار؛ لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة‏:‏ ‏(‏أشيروا علىّ أيها الناس‏)‏ وإنما يريد الأنصار، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ‏.‏

فقال‏:‏ والله، ولكأنك تريدنا يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏أجل‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدَّق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تَقَرَّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله‏.‏

وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم‏:‏ فاظعن حيث شئت، وصِلْ حَبْل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فهو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غِمْدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك‏.‏

فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال‏:‏ ‏(‏سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكإني الآن أنظر إلى مصارع القوم‏)‏‏.


*الجيش الإسلامي يواصل سيره :

ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذَفِرَان، فسلك على ثنايا يقال لها‏:‏ الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له‏:‏ الدَّبَّة، وترك الحَنَّان بيمين ـ وهو كَثِيب عظيم كالجبل ـ ثم نزل قريبًا من بدر‏.‏


*الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بعملية الاستكشاف :

وهناك قام صلى الله عليه وسلم بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه ـ سأل عن الجيشين زيادة في التكتم ـ ولكن الشيخ قال‏:‏ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أخبرتنا أخبرناك‏)‏، قال‏:‏ أو ذاك بذاك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏

قال الشيخ‏:‏ فإنه بلغنى أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش المدينة‏.‏ وبلغنى أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش مكة‏.‏

ولما فرغ من خبره قال‏:‏ ممن أنتما‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نحن من ماء‏)‏، ثم انصرف عنه، وبقى الشيخ يتفوه‏:‏ ما من ماء‏؟‏ أمن ماء العراق‏؟‏


*الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي :

وفي مساء ذلك اليوم بعث صلى الله عليه وسلم استخباراته من جديد ليبحث عن أخبار العدو، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين؛ على بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحابه، ذهبوا إلى ماء بدر فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة، فألقوا عليهما القبض، وجاءوا بهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فاستخبرهما القوم، فقالا‏:‏ نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان ـ لاتزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة ـ فضربوهما ضربًا موجعًا حتى اضطر الغلامان أن يقولا‏:‏ نحن لأبي سفيان فتركوهما‏.‏

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مـن الصلاة قال لهم كالعاتب‏:‏ ‏(‏إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهما لقريش‏)‏‏.‏

ثم خاطب الغلامين قائلًا‏:‏ ‏(‏أخبرإني عن قريش‏)‏، قالا‏:‏ هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما‏:‏ ‏(‏كم القوم‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ كثير‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ما عدتهم‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ لا ندرى، قال‏:‏ ‏(‏كم ينحرون كل يوم‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف‏)‏، ثم قال لهما‏:‏ ‏(‏فمن فيهم من أشراف قريش‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البَخْتَرىّ بن هشام، وحكيم بن حِـزام، ونَوْفَل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطُعَيْمَة بن عدى، والنضر بن الحارث، وَزمْعَة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأميــة بن خلف في رجال سمياهم‏.‏

فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال‏:‏ ‏(‏هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها‏)‏‏.‏


* نزول المطر :

وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرًا واحدًا، فكان على المشركين وابلًا شديدًا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم
‏.‏



*الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية :

وتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحُبَاب بن المنذر كخبير عسكرى وقال‏:‏ يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه‏؟‏ أم هو الرأي والحرب والمكيدة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بل هو الرأي والحرب والمكيدة‏)‏‏.‏

قال‏:‏ يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم ـ قريش ـ فننزله ونغوّر ـ أي نُخَرِّب ـ ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد أشرت بالرأي‏)‏‏.‏

فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو، فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من القلب‏.




*مقر القيادة :

وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني المسلمون مقرًا لقيادته؛ استعدادًا للطوارئ، وتقديرًا للهزيمة قبل النصر، حيث قال‏:‏

يا نبى الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بِمَنْ وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك‏.‏

فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له بخير، وبني المسلمون عَرِيشًا على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقى لميدان القتال، ويشرف على ساحة المعركة‏.‏

كما تم اختيار فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم حول مقر قيادته‏.




* تعبئة الجيش وقضاء الليل :

ثم عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه‏.‏ ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده‏:‏ ‏(‏هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله‏)‏‏.‏ ثم بات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة هنالك، وبات المسلمون ليلهم هادئي الأنفاس منيري الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم؛ يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحًا‏:‏ ‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ‏} [‏الأنفال‏:‏11‏]‏‏.‏

كانت هذه الليلة ليلة الجمعة، السابعة عشرة من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في 8 أو12 من نفس الشهر‏.




*الجيش المكي في عرصة القتال، ووقوع الانشقاق فيه :

أما قريش فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى، ولما أصبحت أقبلت في كتائبها، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر‏.‏ وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏[‏دعوهم‏]‏، فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل، سوى حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان إذا اجتهد في اليمين قال‏:‏ لا والذي نجاني من يوم بدر‏.‏

فلما اطمأنت قريش بعثت عُمَيْر بن وهب الجُمَحِى للتعرف على مدى قوة جيش المدينة، فدار عمير بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال‏:‏ ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلًا أو ينقصون، ولكن أمهلونى حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد‏؟‏

فضرب في الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئًا، فرجع إليهم فقال‏:‏ ما وجدت شيئًا، ولكنى قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلًا منكم،فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خير العيش بعد ذلك‏؟‏ فروا رأيكم‏.‏

وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل ـ المصمم على المعركة ـ تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس، وأتى عتبة ابن ربيعة فقال‏:‏ يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر‏؟‏ قال‏:‏ وما ذاك يا حكيم‏؟‏ قال‏:‏ ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى ـ المقتول في سرية نخلة ـ فقال عتبة‏:‏ قد فعلت‏.‏ أنت ضامن علىّ بذلك‏.‏ إنما هو حليفي، فعلى عقله ‏[‏ديته‏]‏ وما أصيب من ماله‏.‏

ثم قال عتبة لحكيم بن حزام‏:‏ فائت ابن الحَنْظَلِيَّةِ ـ أبا جهل، والحنظلية أمه ـ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره‏.‏

ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبًا فقال‏:‏ يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لايزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألْفَاكُمْ ولم تَعَرَّضُوا منه ما تريدون‏.‏

وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل ـ وهو يهيئ درعًا له ـ قال‏:‏ يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلنى بكذا وكذا، فقال أبو جهل‏:‏ انتفخ والله سَحْرُهُ حين رأي محمدًا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأي أن محمدًا وأصحابه أكلة جَزُور، وفيهم ابنه ـ وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديمًا وهاجر ـ فَتَخَوَّفَكُمْ عليه‏.‏

ولما بلغ عتبة قول أبي جهل‏:‏ انتفخ والله سحره، قال عتبة‏:‏ سيعلم مُصَفِّر اسْتَه من انتفخ سحره، أنا أم هو‏؟‏ وتعجل أبو جهل، مخافة أن تقوى هذه المعارضة، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمى ـ أخي عمرو بن الحضرمى المقتول في سرية عبد الله بن جحش ـ فقال‏:‏ هذا حليفك ‏[‏أي عتبة‏]‏ يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانْشُد خُفْرَتَك ، ومَقْتَلَ أخيك، فقام عامر فكشف عن استه، وصرخ‏:‏ واعمراه، واعمراه، فحمى القوم، وحَقِبَ أمرهم، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة‏.‏ وهكذا تغلب الطيش على الحكمة، وذهبت هذه المعارضة دون جدوى‏. ‏ ‏




القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 7 يونيو - 15:09



*الجيشان يتراآن :

ولما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيَلائها وفَخْرها تُحَادُّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحْنِهُم ‏[‏الغداة‏]‏‏)‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر‏:‏ ‏(‏إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يَرْشُدُوا‏)‏‏.‏

وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يديه قِدْح يعدل به، وكان سَوَاد بن غَزِيَّة مُسْتَنْصِلًا من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال‏:‏ ‏(‏استو يا سواد‏)‏، فقال سواد‏:‏ يا رسول الله، أوجعتنى فأقدنى، فكشف عن بطنه وقال‏:‏ ‏(‏استقد‏)‏، فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال‏:‏ ‏(‏ما حملك على هذا يا سواد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ يا رسول الله، قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك‏.‏ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير‏.‏

ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بألا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خـاص في أمـر الحـرب، فقال‏:‏ ‏(‏إذا أكثبوكم ـ يعنى اقتربوا منكم ـ فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم‏)‏ ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة،وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش‏.‏

أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال‏:‏ اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لانعرفه،فأحِنْه الغداة،اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل الله‏:‏ ‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏19‏]‏


* ساعة الصفر وأول وقود المعركة :

وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومى ـ وكان رجلًا شرسًا سيئ الخلق ـ خرج قائلًا‏:‏ أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه‏.‏ فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فلما التقيا ضربه حمزة فأطَنَّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دمًا نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض‏.




*المبـــارزة :

وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار عَوْف ومُعَوِّذ ابنا الحارث ـ وأمهما عفراء ـ وعبد الله بن رواحة، فقالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ رهط من الأنصار‏.‏ قالوا‏:‏ أكِِفَّاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم‏:‏ يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا على‏)‏، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ فأخبروهم، فقالوا‏:‏ أنتم أكفاء كرام، فبارز عبيدة ـ وكان أسن القوم ـ عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على الوليد‏.‏ فأما حمزة وعلى فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كَرَّ على وحمزة على عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله، فلم يزل ضَمِنًا حتى مات بالصفراء،بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر، حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة‏.‏ وكان على يقسم بالله أن هذه الآية نــزلت فيهم‏:‏ ‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏19‏]‏‏.




* الهجوم العام :

وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة للمشركين؛ إذ فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة،فاستشاطوا غضبًا،وكروا على المسلمين كرة رجل واحد‏.‏

وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتتالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون‏:‏ أحَد أحَد‏.‏



* الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه :

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول‏:‏ ‏(‏اللّهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك‏)‏، حتى إذا حَمِىَ الوَطِيسُ، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال‏:‏ ‏(‏اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا‏)‏‏.‏ وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال‏:‏ حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك‏.‏

وأوحى الله إلى ملائكته‏:‏ ‏{‏أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏،وأوحى إلى رسوله‏:‏ ‏{‏أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏9‏]‏ ـ أي إنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضًا أرسالًا، لا يأتون دفعة واحدة‏.‏


* نزول الملائكة :

وأغفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال‏:‏ ‏(‏أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثَنَاياه النَّقْعُ‏)‏ ‏[‏أي الغبار‏]‏ وفي رواية ابن إسحاق‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، وعلى ثناياه النقع‏)‏‏.‏

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏45‏]‏ ،ثم أخذ حَفْنَةً من الحَصْبَاء، فاستقبل بها قريشًا وقال‏:‏ ‏(‏شاهت الوجوه‏)‏ ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏17‏]‏‏.‏


*الهجوم المضاد :

وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال‏:‏ ‏(‏شدوا‏)‏، وحرضهم على القتال، قائلًا‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة‏)‏، وقال وهو يحضهم على القتال‏:‏ ‏(‏قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض‏)‏، ‏[‏وحينئذ‏]‏ قال عُمَيْر بن الحُمَام‏:‏ بَخْ بَخْ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما يحملك على قولك‏:‏ بخ بخ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال‏:‏ ‏(‏فإنك من أهلها‏)‏‏.‏ فأخرج تمرات من قَرَنِه فجعل يأكل منهن، ثم قال‏:‏ لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل‏.‏

وكذلك سأله عوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ فقال‏:‏ يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏غَمْسُه يده في العَدُوّ حاسرًا‏)‏، فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل‏.‏

وحين أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجوم المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت وفتر حماسه، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم ـ وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه ـ قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون الصفوف، ويقطعون الأعناق‏.‏ وزادهم نشاطًا وحدة أن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وقد تقدمهم فلم يكن أحد أقرب من المشركين منه، وهو يقول في جزم وصراحة‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ فقاتل المسلمون أشد القتال ونصرتهم الملائكة‏.‏ ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال‏:‏ كان يومئذ يَنْدُر رأس الرجل لا يدرى من ضربه، وتندر يد الرجل لا يدرى من ضربها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول‏:‏ أقدم حَيْزُوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخْضَرَّ ذلك أجمع، فجاء الأنصارى فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة‏)‏‏.‏

وقال أبو داود المازنى‏:‏ إني لأتبع رجلًا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيرى، وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا،فقال العباس‏:‏ إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح، من أحسن الناس وجهًا على فرس أبْلَق، وما أراه في القوم، فقال الأنصاري‏:‏ أنا أسرته يا رسول الله، فقال‏:‏ ‏(‏اسكت فقد أيدك الله بملك كريم‏)‏‏.‏

وقال علي‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ولأبي بكر‏:‏ ‏(‏مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال، أو يكون في القتال‏)‏‏.‏


* إبليس ينسحب عن ميدان القتال :

ولما رأى إبليس ـ وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجي كما ذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت ـ فلما رأي ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام ـ وهو يظنه سراقة ـ فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هاربًا، وقال له المشركون‏:‏ إلى أين يا سراقة‏؟‏ ألم تكن قلت‏:‏ إنك جار لنا، لا تفارقنا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏48‏]‏، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر‏.




*الهزيمة الساحقة:

وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون، حتى تمت عليهم الهزيمة‏.‏



* صمود أبي جهل :

أما الطاغية الأكبر أبو جهل، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل، فجعل يشجع جيشه ويقول لهم في شراسة ومكابرة‏:‏ لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلًا منكم قتل منهم رجلًا، ولكن خذوهم أخذًا حتى نعرفهم بسوء صنيعهم‏.‏

ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلًا حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين‏.‏ نعم، بقى حوله عصابة من المشركين ضربت حوله سياجًا من السيوف، وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياج، وأقلعت هذه الغابات، وحينئذ ظهر هذا الطاغية، ورآه المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدى غلامين أنصاريين‏.‏



*مصرع أبي جهل :

قال عبد الرحمن بن عوف رضي اله عنه إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًا من صاحبه‏:‏ يا عم، أرني أبا جهل، فقلت‏:‏ يابن أخي، فما تصنع به‏؟‏ قال‏:‏ أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك‏.‏ قال‏:‏ وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس‏.‏ فقلت‏:‏ ألا تريان‏؟‏ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال‏:‏ فابتدراه فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـقال‏:‏ ‏(‏أيكما قتله‏؟‏‏)‏ فقـال كـل واحد منهما‏:‏ أنا قتلته، قال‏:‏ ‏(‏هل مسحتما سيفيكما‏؟‏‏)‏ فـقالا‏:‏ لا‏.‏ فنـظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلــى السيفـين فقال‏:‏ ‏(‏كلاكما قتله‏)‏، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَلَبِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومُعَوِّذ ابن عفراء‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ قال معاذ بن عمرو بن الجموح‏:‏ سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحَرَجَة ـ والحرجة‏:‏ الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، شبه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة ـ وهم يقولون‏:‏ أبو الحكم لا يخلص إليه، قال‏:‏ فلما سمعتها جعلته من شاني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطَنَّتْ قدمه ـ أطارتها ـ بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تَطِيحُ من تحت مِرْضِخَة النوى حين يضرب بها‏.‏ قال‏:‏ وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عَامَّةَ يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تَمَطَّيْتُ بها عليها حتى طرحتها، ثم مر بأبي جهل ـ وهو عَقِيرٌ ـ مُعَوِّذ ابن عفراء فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رَمَق، وقاتل معوذ حتى قتل‏.‏

ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ينظر ما صنع أبو جهل‏؟‏‏)‏ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال‏:‏ هل أخزاك الله يا عدو الله‏؟‏ قال‏:‏ وبماذا أخزاني‏؟‏ أأعمد من رجل قتلتموه‏؟‏ أو هل فوق رجل قتلتموه‏؟‏ وقال‏:‏ فلو غير أكَّار قتلنى، ثم قال‏:‏ أخبرني لمن الدائرة اليوم‏؟‏ قال‏:‏ لله ورسوله، ثم قال لابن مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه‏:‏ لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَ الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة‏.‏

وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال‏:‏ ‏(‏الله الذي لا إله إلا هو‏؟‏‏)‏ فرددها ثلاثًا، ثم قال‏:‏ ‏(‏الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه‏)‏، فانطلقـنا فــأريته إيـاه، فقال‏:‏ ‏(‏هذا فرعون هذه الأمة‏)‏‏.


*من روائع الإيمان في هذه المعركة :


لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحمام وعوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ وقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة تبرز فيها قوة العقيدة وثبات المبدأ، ففي هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهما المبادئ ففصلت بينهما السيوف، والتقى المقهور بقاهره فشفي منه غيظه‏.‏



فكان أبو حذيفة يقول‏:‏ ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عنى الشهادة‏.‏ فقتل يوم اليمامة شهيدًا‏.‏



ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله، وذلك أن المُجَذَّر بن زياد الْبَلَوِىّ لقيه في المعركة ومعه زميل له، يقاتلان سويًا، فقال المجذر‏:‏ يا أبا البخترى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك، فقال‏:‏ وزميلي‏؟‏ فقال المجذر‏:‏ لا والله ما نحن بتاركي زميلك، فقال‏:‏والله إذن لأموتن أنا وهو جميعًا، ثم اقتتلا، فاضطر المجذر إلى قتله‏.‏



قال عبد الرحمن‏:‏ فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بلالًا بمكة ـ فقال بلال‏:‏ رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا‏.‏ قلت‏:‏ أي بلال، أسيري‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ قلت‏:‏ أتسمع يابن السوداء‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ ثم صرخ بأعلى صوته‏:‏ يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا‏.‏ قال‏:‏ فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل الْمَسَكَة، وأنا أذب عنه، قال‏:‏ فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت‏:‏ انج بنفسك، ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئًا‏.‏ قال‏:‏ فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول‏:‏ يرحم الله بلالًا، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري‏.‏

وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي ـ أي خاصتي ومالي ـ بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة‏.‏‏.‏‏.‏ فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس الأنصار فقال‏:‏ أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه ليشغلهم، فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلًا ثقيلًا، فلما أدركونا قلت له‏:‏ ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه‏.‏ وكان عبد الرحمن يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه‏.‏





لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَكَّةٍ ويَعْبُوب ** وصَارِمٍ يَقْتُلُ ضُلاَّل الشِّيَبْ







1 ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏إني قد عرفت أن رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقى أبا البَخْتَرِيّ بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهًا‏)‏، فقال أبو حذيفة بن عتبة‏:‏ أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه ـ أو لألجمنه ـ بالسيف، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب‏:‏ ‏(‏يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف‏)‏، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق‏.‏ 2 ـ وكان النهي عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغ عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب‏.‏ 3 ـ كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن، وهو واقف مع ابنه على بن أمية، آخذًا بيده، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، وهو يحملها، فلما رآه قال‏:‏ هل لك في‏؟‏ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن‏؟‏ ـ يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن ـ فطرح عبد الرحمن الأدراع، وأخذهما يمشى بهما، قال عبد الرحمن‏:‏ قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه‏:‏ من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره‏؟‏ قلت‏:‏ ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال‏:‏ ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل‏.‏ 4 ـ وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه، ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الأسر‏:‏ يا عباس أسلم، فوالله أن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك‏.‏ 5 ـ ونادى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابنه عبد الرحمن ـ وهو يومئذ مع المشركين ـ فقال‏:‏ أين مالي يا خبيث‏؟‏ فقال عبد الرحمن‏:‏ 6 ـ ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحًا سيفه، رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له‏:‏ والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم‏؟‏ قال‏:‏ أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلىّ من استبقاء الرجال‏.‏ 7 ـ وانقطع يومئذ سيف عُكَّاشَة بن مِحْصَن الأسدي، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جِذْلًا من حطب، فقال‏:‏ ‏(‏قاتل بهذا يا عكاشة‏)‏، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفًا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد، حتى قتل في حروب الردة وهو عنده‏.‏ 8 ـ وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين،مر به وأحد الأنصار يشد يده، فقال مصعب للأنصاري‏:‏ شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب‏:‏ أهذه وصاتك بي‏؟‏ فقال مصعب‏:‏ إنه ـ أي الأنصاري ـ أخي دونك‏.‏ 9 ـ ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ لا والله، يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلًا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك‏.‏ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرًا‏.‏




القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 7 يونيو - 15:21



*قتلى الفريقين :

انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار‏.‏

أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون، وأسر سبعون‏.‏ وعامتهم القادة والزعماء والصناديد‏.‏

ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال‏:‏ ‏(‏بئس العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس‏)‏، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قُلُب بدر‏.‏

وعن أبي طلحة‏:‏ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طَويّ من أطواء بدر خَبِيث مُخْبث‏.‏ وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، واتبعه أصحابه‏.‏ حتى قام على شفة الرَّكِىّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، ‏(‏يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله‏؟‏ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا‏؟‏‏)‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها‏؟‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون‏)‏‏.

*مكة تتلقى نبأ الهزيمة :

فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة؛ تبعثروا في الوديان والشعاب، واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلًا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان أول من قدم بمصاب قريش الحَيْسُمَان بن عبد الله الخزاعى، فقالوا‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف، في رجال من الزعماء سماهم‏.‏ فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحِجْر‏:‏ والله إن يعقل هذا، فاسألوه عنى‏.‏ قالوا‏:‏ ما فعل صفوان بن أمية‏؟‏ قال‏:‏ ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا‏.‏

وقال أبو رافع ـ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كنت غلامًا للعباس وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزًا، وكنت رجلًا ضعيفًا أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طُنُب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهرى، فبينما هو جالس إذ قال الناس‏:‏ هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب‏:‏ هلم إلىَّ، فعندك لعمرى الخبر، قال‏:‏ فجلس إليه،والناس قيام عليه‏.‏ فقال‏:‏ يابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس‏؟‏ قال‏:‏ ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لَقِينَا رجال بيض على خيل بُلْق بين السماء والأرض، والله ما تُلِيق شيئًا، ولا يقوم لها شيء‏.‏

قال أبو رافع‏:‏ فرفعت طنب الحجرة بيدى، ثم قلت‏:‏ تلك والله الملائكة‏.‏ قال‏:‏ فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملنى فضرب بى الأرض، ثم برك علىّ يضربني، وكنت رجلًا ضعيفًا فقامت أم الفضل إلى عمود من عُمُد الحجرة فأخذته، فضربته به ضربة فَلَعَتْ في رأسه شجة منكرة، وقالت‏:‏ استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليًا ذليلًا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة ‏[‏وهي قرحة تتشاءم بها العرب‏]‏ فقتلته، فتركه بنوه، وبقى ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه‏.‏

هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر، وقد أثر ذلك فيهم أثرًا سيئًا جدًا، حتى منعوا النياحة على القتلى؛ لئلا يشمت بهم المسلمون‏.‏

ومن الطرائف أن الأسود بن المطلب أصيب ثلاثة من أبنائه يوم بدر، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان ضرير البصر، فسمع ليلًا صوت نائحة، فبعث غلامه، وقال‏:‏ انظر هل أحل النَّحْبُ‏؟‏ هل بكت قريش على قتلاها‏؟‏ لعلي أبكي على أبي حكيمة ـ ابنه ـ فإن جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال‏:‏ إنما هي امرأة تبكى على بعير لها أضلته، فلم يتمالك الأسود نفسه وقال‏:‏

أتبكي أن يضل لها بعير ** ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص ** ومخزوم ورهط أبي الوليد

وبكى إن بكيت على عقيل ** وبكى حارثا أسد الأسود

وبكيهم ولا تسمى جميعا ** وما لأبي حكيمة من نديد

ألا قد ساد بعدهم رجال ** ولولا يوم بدر لم يسودوا

*المدينة تتلقى أنباء النصر :

ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين إلى أهل المدينة؛ ليعجل لهم البشرى، أرسل عبد الله بن رواحة بشيرًا إلى أهل العالية، وأرسل زيد بن حارثة بشيرًا إلى أهل السافلة‏.‏

وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأي أحد المنافقين زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ـ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فَلاّ

فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلميـن، فَعَمَّت البهجـة والسـرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلًا وتكبيرًا، وتقدم رءوس المسلمين ـ الذين كانوا بالمدينة ـ إلى طريق بدر، ليهنئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح المبين‏.‏

قال أسامة بن زيد‏:‏ أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفنى عليها مع عثمان‏.

*الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة :

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة أيام، وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم، ولما اشتد هذا الخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرد الجميع ما بأيديهم، ففعلوا، ثم نزل الوحى بحل هذه المشكلة‏.‏

عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه بدرًا، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يصيب العدو منه غِرَّة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم‏:‏ نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب،وقال الذين خرجوا في طلب العدو‏:‏ لستم أحق بها منا، نحـن نحـينا منـها العـدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ خفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏1‏]‏‏.‏ فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين‏.‏

وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل عليه عبد الله بن كعب، فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس‏.‏

وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ـ وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر، وكان من أكابر مجرمى قريش، ومن أشد الناس كيدًا للإسلام وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فضرب عنقه علي بن أبي طالب‏.‏

ولمـا وصل إلى عِرْق الظُّبْيَةِ أمر بقتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْط ـ وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي كان ألقى سَلا جَزُور على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله، لولا اعتراض أبي بكر رضي الله عنه ـ فلما أمر بقتله قال‏:‏ من للصِّبْيَةِ يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏النار‏)‏‏.‏ فقتله عاصم ابن ثابت الأنصارى، ويقال‏:‏ علي بن أبي طالب‏.‏

وكان قتل هذين الطاغيتين واجبًا نظرًا إلى سوابقهما، فلم يكونا من الأسارى فحسب، بل كانا من مجرمى الحرب بالاصطلاح الحديث‏.‏


*وفود التهنئة :

ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى الرَّوْحَاء لقيه رءوس المسلمين ـ الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة والاستقبال حين سمعوا بشارة الفتح من الرسولين ـ يهنئونه بالفتح‏.‏ وحينئذ قال لهم سَلَمَة بن سلامة‏:‏ما الذي تهنئوننا به‏؟‏ فوالله إن لَقِينا إلا عجائز صُلْعًا كالْبُدْن المعُقَّلَةِ، فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏يا بن أخي، أولئك الملأ‏)‏‏.‏

وقال أسيد بن حضير‏:‏ يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك، وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏‏.‏

ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مظفرًا منصورًا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي وأصحابه في الإسلام ظاهرًا‏.‏

وقدم الأسارى بعد بلوغه المدينة بيوم، فقسمهم على أصحابه، وأوصى بهم خيرًا‏.‏ فكان الصحابة يأكلون التمر، ويقدمون لأسرائهم الخبز، عملًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم


* قضية الأسارى :

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعَشِيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله، فيكونوا لنا عضدًا‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ترى يابن الخطاب‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عَقِيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين‏.‏ وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم‏.‏

فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء‏:‏ فلما كان من الغد قال عمر‏:‏ فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت‏:‏ يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك‏؟‏ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة‏)‏ ـ شجرة قريبة‏.‏

وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏67، 68‏]‏‏.‏

والكتاب الذي سبق من الله قيل‏:‏ هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسارى؛ ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، وقيل‏:‏ بل الآية المذكورة نزلت فيما بعد، وإنما الكتاب الذي سبق من الله هو ما كان في علم الله من إحلال الغنائم لهذه الأمة، أو من المغفرة والرحمة لأهل بدر‏.‏

وحيث إن الأمر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء‏.‏

ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدة من الأسارى فأطلقهم بغير فداء، منهم‏:‏ المطلب ابن حَنْطَب، وصَيْفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجُمَحِى، وهو الذي قتله أسيرا في أحد، وسيأتي‏.‏

ومنّ على خَتَنِه أبي العاص بشرط أن يخلى سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلى سبيل زينب، فخلاها فهاجرت، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار، فقال‏:‏ ‏(‏كونا ببطن يَأجَج حتى تمر بكما زينب فتصحباها‏)‏، فخرجا حتى رجعا بها‏.‏ وقصة هجرتها طويلة ومؤلمة جدًا‏.‏

وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبًا مِصْقَعًا، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يَدْلَعْ لسَانُه، فلا يقوم خطيبًا عليك في موطن أبدًا، بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض هذا الطلب؛ احترازًا عن المُثْلَةِ، وعن بطش الله يوم القيامة‏.‏

وخرج سعد بن النعمان معتمرًا فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد‏.‏


*القرآن يتحدث حول موضوع المعركة :

وحول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال، وهذه السورة تعليق إلهي ـ إن صح هذا التعبير ـ على هذه المعركة، يختلف كثيرًا عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح‏.‏

إن الله تعالى لفت أنظار المسلمين ـ أولًا ـ إلى بعض التقصيرات الأخلاقية التي كانت قد بقيت فيهم، وصدر بعضها منهم؛ ليسعوا في تحلية نفوسهم بأرفع مراتب الكمال، وفي تزكيتها عن هذه التقصيرات‏.‏

ثم ثَنَّى بما كان في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيب للمسلمين‏.‏ ذكر لهم ذلك لئلا يغتروا بشجاعتهم وبسالتهم، فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء، بل ليتوكلوا على الله، ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏

ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول صلى الله عليه وسلم لأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التي تتسبب في الفتوح في المعارك‏.‏

ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، ووعظهم موعظة بليغة، تهديهم إلى الاستسلام للحق والالتزام به‏.‏

ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم، وقنن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة‏.‏

ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية، ويتفوق المسلمون في الأخلاق والقيم والمثل، ويتأكد للدنيا أن الإسلام ليس مجرد وجهة نظر، بل هو دين يثقف أهله عمليًا على الأسس والمبادئ التي يدعو إليها‏.‏

ثم قرر بنودًا من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها، والذين يسكنون خارجها‏.‏

وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وبينت أنصبة الزكاة الأخرى، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرى تخفيفًا لكثير من الأوزار التي كان يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضربًا في الأرض‏.‏

ومن أحسن المواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2 هـ، إثر الفتح المبين الذي حصل لهم في غزوة بدر‏.‏ فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء به الله بعد أن تَوَّجَ هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروق منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى الله، وحنينًا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم به من النعم،وأيدهم به من النصر، وقد ذكرهم بذلك قائلًا‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏26‏]‏‏.

النشاط العسكري بين بدر وأحد



إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، وكانت معركة فاصلة أكسبت المسلمين نصراً حاسماً شهد له العرب قاطبة‏.‏ والذين كانوا أشد استياء لنتائج هذه المعركة هم أولئك الذين منوا بخسائر فادحة مباشرة؛ وهم المشركون، أو الذين كانوا يرون عزة المسلمين وغلبتهم ضرباً قاصماً على كيانهم الديني والاقتصادي، وهم اليهود‏.‏ فمنذ أن انتصر المسلمون في معركة بدر كان هذان الفريقان يحترقان غيظاً وحنقًا على المسلمين؛ ‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏82‏]‏، وكانت في المدينة بطانة للفريقين دخلوا في الإسلام حين لم يبق مجال لعزهم إلا في الإسلام، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه، ولم تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظاً من الأوليين‏.‏

وكانت هناك فرقة رابعة، وهم البدو الضاربون حول المدينة، لم يكن يهمهم مسألة الكفر والإيمان، ولكنهم كانوا أصحاب سلب ونهب، فأخذهم القلق، واضطربوا لهذا الانتصار، وخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب، فجعلوا يحقدون على المسلمين وصاروا لهم أعداء‏.‏

وتبين بهذا أن الانتصار في بدر كما كان سبباً لشوكة المسلمين وعزهم وكرامتهم كذلك كان سبباً لحقد جهات متعددة، وكان من الطبيعي أن يتبع كل فريق ما يراه كفيلاً لإيصاله إلى غايته‏.‏

فبينما كانت المدينة وما حولها تظاهر بالإسلام، وتأخذ في طريق المؤامرات والدسائس الخفية كانت فرقة من اليهود تعلن بالعداوة، وتكاشف عن الحقد والغيظ، وكانت مكة تهدد بالضرب القاصم، وتعلن بأخذ الثأر والنقمة، وتهتم بالتعبئة العامة جهاراً، وترسل إلى المسلمين بلسان حالها، تقول‏:‏

ولا بد من يوم أغرّ مُحَجَّل ** يطول استماعي بعده للنوادب

وفعلاً فقد قادت غزوة قاصمة إلى أسوار المدينة عرفت في التاريخ بغزوة أحد، والتي كان لها أثر سيئ على سمعة المسلمين وهيبتهم‏.‏

وقد لعب المسلمون دوراً هاماً للقضاء على هذه الأخطار، تظهر فيه عبقرية قيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من غاية التيقظ حول هذه الأخطار، وما كان عليه من حسن التخطيط للقضاء عليها، ونذكر في السطور الآتية صورة مصغرة منها‏:‏



*غزوة بني سُلَيم بالكُدْر :

أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن بني سليم وبني غَطَفَان تحشد قواتها لغزو المدينة، فباغتهم النبي صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب في عقر دراهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له‏:‏ الكُدْر‏.‏ ففر بنو سليم، وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولي عليها جيش المدينة، وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخراج الخمس فأصاب كل رجل بعيرين، وأصاب غلاما يقال له‏:‏ ‏(‏يسار‏)‏ فأعتقه‏.‏

وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة‏.‏

وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2 هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام، أوفي المحرم للنصف منه، واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَة‏.‏ وقيل‏:‏ ابن أم مكتوم‏.‏


*مؤامرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم :

كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن استشاطوا غضباً، وجعلت مكة تغلي كالمِرْجَل ضد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تآمر بطلان من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق ومثار هذا الذل والهوان في زعمهم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحِجْر بعد وقعة بدر بيسير ـ وكان عمير من شياطين قريش ممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة ـ وكان ابنه وهب بن عمير في أساري بدر، فذكر أصحاب القَلِيب ومصابهم، فقال صفوان‏:‏ والله إن في العيش بعدهم خير‏.‏

قال له عمير‏:‏ صدقت واللّه، أما واللّه لولا دَيْن على ليس له عندي قضاء، وعيال أخشي عليهم الضَّيْعةَ بعدي لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قِبَلَهُمْ عِلَّةً، ابني أسير في أيديهم‏.‏

فاغتنمها صفوان وقال‏:‏ على دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيإلى، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم‏.‏

فقال له عمير‏:‏ فاكتم عني شأني وشأنك‏.‏ قال‏:‏ أفعل‏.‏

ثم أمر عمير بسيفه فشُحِذَ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم به المدينة، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب ـ وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم الله به يوم بدر ـ فقال عمر‏:‏ هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر‏.‏ ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا نبي الله، هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، قال‏:‏ ‏(‏فأدخله علي‏)‏، فأقبل إلى عمير فلَبَّبَهُ بحَمَالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار‏:‏ ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه ـ قال‏:‏ ‏(‏أرسله يا عمر، ادن يا عمير‏)‏، فدنا وقال‏:‏ أنْعِمُوا صباحاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏ما جاء بك يا عمير ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فما بال السيف في عنقك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏اصدقني، ما الذي جئت له ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ ما جئت إلا لذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت‏:‏ لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك‏)‏‏.‏

قال عمير‏:‏ أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره‏)‏‏.‏

وأما صفوان فكان يقول‏:‏ أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر‏.‏ وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه فحلف صفوان ألا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدا‏.‏

ورجع عمير إلى مكة وأقام بها يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه ناس كثير‏.‏



القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف تسنيم الجنان الثلاثاء 7 يونيو - 15:24

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 201111172447_dll3-bnat.netb012762222
تسنيم الجنان
تسنيم الجنان
همسات اسلامية

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Adare
عدد المساهمات : 3861
نقاط : 11902
السٌّمعَة : 6
تاريخ التسجيل : 08/08/2010
الموقع : ♥فيني هدوء الكون وفيني جنونه♥

https://hmsat-islam.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الثلاثاء 7 يونيو - 15:44



وفيكم يبارك الله
يا ابنتى الفاضلة لتشريفكم صفحتنا

القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف المعتزة بديني الثلاثاء 7 يونيو - 16:58

الله لايحرمك والدنا الفاضل الاجر على ما تتحفنا به من السيرة العطرة لخير الخلق
اللهم صل وسلم وبارك على خير من وطئت قدماه الثرى

سلمت يداك والدي وبارك في عمرك على طاعته ورضاه
المعتزة بديني
المعتزة بديني
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 1356
نقاط : 7744
السٌّمعَة : 12
تاريخ التسجيل : 07/08/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الأربعاء 8 يونيو - 12:05

]center]

غـزوة بني قينقـاع:

قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود، وقد كان حريصاً كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلاً لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها‏.‏ ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين‏.‏ وهاك مثلاً من ذلك‏:‏


*نموذج من مكيدة اليهود‏‏ :

قال ابن إسحاق‏:‏ مر شاس بن قيس ـ وكان شيخاً ‏[‏يهودياً‏]‏ قد عسا ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال‏:‏ قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتي شاباً من يهود كان معه، فقال‏:‏ اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة ـ يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم ـ وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا‏:‏ قد فعلنا، موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة‏:‏ الحَرَّة ـ السلاح السلاح، فخرجوا إليها ‏[‏وكادت تنشب الحرب‏]‏‏.‏

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم‏)‏

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس‏.‏

هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والفتن في المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية، وقد كانت لهم خطط شتي في هذا السبيل‏.‏ فكانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مإلى، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونـه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه وكانوا يقولون‏:‏ إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل‏.‏

كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة‏.‏


*بنو قَينُقَاع ينقضون العهد‏ :

لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب القاصي والداني‏.‏ تميزت قدر غيظهم، وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذي‏.‏

وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف ـ وسيأتي ذكره ـ كما أن شر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة ـ في حي باسمهم ـ وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود‏.‏

فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذي كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم‏.‏

وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدي، وحـذرهم مغـبة البغـي والـعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم‏.‏

روي أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران 12، 13‏]‏‏.‏

كان في معني ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر عن الحرب، ولكن كظم النبي صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليإلى والأيام‏.‏

وازداد اليهود ـ من بني قينقاع ـ جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة‏.‏

روي ابن هشام عن أبي عون‏:‏ أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ـ وكان يهودياً ـ فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع‏.‏


*الحصار ثم التسليم ثم الجلاء‏‏ :

وحينئذ عِيلَ صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخلف على المدينة أبا لُبَابة بن عبد المنذر، وأعطي لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود الله إلى بني قينقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب ـ فهو إذا أرادوا خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم ـ فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا‏.‏

وحينئذ قام عبد الله بن أبي بن سلول بدور نفاقه، فألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم العفو، فقال‏:‏ يا محمد، أحسن فـي موإلى ـ وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرر ابن أبي مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول اللَّّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أرسلني‏)‏، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً ، ثم قال‏:‏ ‏(‏ويحك، أرسلني‏)‏‏.‏ ولكن المنافق مضى على إصراره وقال‏:‏ لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة ‏؟‏ إني والله امرؤ أخشي الدوائر‏.‏

وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنافق ـ الذي لم يكن مضي على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب ـ عامله بالحسنى‏.‏ فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم‏.‏

وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قِسِي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم، وكان الذي تولي جمع الغنائم محمد بن مسلمة‏.

*غزوة السَّوِيق :

بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم، كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبِرَّ يمينه، حتى نزل بصدْر قَناة إلى جبل يقال له‏:‏ ثَيبٌ، من المدينة على بَرِيد أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام، فأتي حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبي وخاف، فانصرف إلى سَلاَّم بن مِشْكَم سيد بنِي النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فَقَرَاه وسقاه الخمر، وبَطَن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتي أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها‏:‏ ‏[‏العُرَيض‏]‏، فقطعوا وأحرقوا هناك أصْْوَارًا من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة‏.‏

وبلغ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم، يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قَرْقَرَةِِ الكُدْر، ثم انصرف راجعاً‏.‏ وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق‏.‏ وقد وقعت في ذي الحجة سنة 2 هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر‏.‏

*غزوة ذي أمر :

وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3 هـ‏.‏

وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان‏.‏

وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له‏:‏ جُبَار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو‏.‏

وتفرق الأعداء في رءوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة‏.‏ أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمي ‏[‏بذي أمر‏]‏ فأقام هناك صفراً كله ـ من سنة 3 هـ ـ أو قريباً من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجح إلى المدينة‏.‏

*قتل كعب بن الأشرف :

كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقاً على الإسلام والمسلمين، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرا بالدعـوة إلى حربه‏.‏

كان من قبيلة طيئ ـ من بني نَبْهان ـ وأمه من بني النضير، وكان غنياً مترفاً معروفاً بجماله في العرب، شاعراً من شعرائها‏.‏ وكان حصنه في شرق جنوب المدينة خلف ديار بني النضير‏.‏

ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال‏:‏ أحق هذا ‏؟‏ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها‏.‏

ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح عدوهم ويحرضهم عليهم، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش، فنزل على المطلب بن أبي وَدَاعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القَلِيب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكي حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعوهم إلى حربه، وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون‏:‏ أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه‏؟‏ وأي الفريقين أهدي سبيلاً‏؟‏ فقال‏:‏ أنتم أهدي منهم سبيلا، وأفضل، وفي ذلك أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء‏.‏

وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لكعب بن الأشرف ‏؟‏ فإنه آذى الله ورسوله‏)‏، فانتدب له محمد بن مسلمة، وعَبَّاد بن بشر، وأبو نائلة ـ واسمه سِلْكَان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاعة ـ والحارث بن أوس، وأبو عَبْس بن جبر، وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة‏.‏

وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال‏:‏ ‏(‏من لكعب بن الأشرف ‏؟‏ فإنه قد آذى الله ورسوله‏)‏، قام محمد بن مسلمة فقال‏:‏ أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فائذن لي أن أقول شيئاً‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏قل‏)‏‏.‏

فأتاه محمد بن مسلمة، فقال‏:‏ إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عَنَّانا‏.‏

قال كعب‏:‏ والله لَتَمَلُّنَّهُ‏.‏

قال محمد بن مسلمة‏:‏ فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ‏؟‏ وقد أردنا أن تسلفنا وَسْقـًا أو وَسْقَين‏.‏

قال كعب‏:‏ نعم، أرهنوني‏.‏

قال ابن مسلمة‏:‏ أي شيء تريد ‏؟‏

قال‏:‏ أرهنوني نساءكم‏.‏

قال‏:‏ كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ‏؟‏

قال‏:‏ فترهنوني أبناءكم‏.‏

قال‏:‏ كيف نرهنك أبناءنا فيُسَبُّ أحَدُهم فيقال‏:‏ رُهِن بوسق أو وسقين هذا عار علينا‏.‏ ولكنا نرهنك الَّلأْمَة، يعني السلاح‏.‏

فواعده أن يأتيه‏.‏

وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعباً فتناشد معه أطراف الأشعار سويعة، ثم قال له‏:‏ ويحك يا بن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني‏.‏

قال كعب‏:‏ أفعل‏.‏

قال أبو نائلة‏:‏ كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قَوْسٍ واحدة، وقطعتْ عنا السبل، حتى ضاع العيال، وجُهِدَت الأنفس، وأصبحنا قد جُهِدْنا وجُهِد عيالنا، ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة‏.‏

وقال أبو نائلة أثناء حديثه‏:‏ إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك‏.‏

وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصد، فإن كعباً لن ينكر معهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار‏.‏

وفي ليلة مُقْمِرَة ـ ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 3 هـ ـ اجتمعت هذه المفرزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشيعهم إلى بَقِيع الغَرْقَد، ثم وجههم قائلاً‏:‏ ‏(‏انطلقوا على اسم الله، اللّهم أعنهم‏)‏، ثم رجع إلى بيته، وطفق يصلى ويناجي ربه‏.‏

وانتهت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزل إليهم، فقالت له امرأته ـ وكان حديث العهد بها‏:‏ أين تخرج هذه الساعة ‏؟‏ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم‏.‏

قال كعب‏:‏ إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفح رأسه‏.‏

وقد كان أبو نائلة قال لأصحـابـه‏:‏ إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة، ثم قال أبو نائلة‏:‏ هل لك يا بن الاشرف أن نتماشى إلى شِعْب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا ‏؟‏ قال‏:‏ إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق ‏:‏ ما رأيت كالليلة طيباً أعطر ، وزهي كعب بما سمع ، فقال‏:‏ عندي أعطر نساء العرب ، قال أبو نائلة ‏:‏ أتأذن لي أن أشم رأسك ‏؟‏ قال‏:‏ نعم ، فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه ‏.‏

ثم مشى ساعـة ثم قال ‏:‏ أعود ‏؟‏ قال كعب‏:‏ نعم ، فعاد لمثلها ‏.‏ حتى اطمأن ‏.‏

ثم مشى ساعة ثم قال‏:‏ أعود ‏؟‏ قال‏:‏ نعم ، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال‏:‏ دونكم عدو الله ، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغن شيئاً، فأخذ محمد بن مسلمة مِغْوَلاً فوضعه في ثُنَّتِهِ، ثم تحامل عليه حتي بلغ عانته، فوقع عدو الله قتيلاً، وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران‏.‏

ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذُبَاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حَرَّة العُرَيْض رأت أن الحارث ليس معهم، فوقفت ساعة حتي أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه، حتي إذا بلغوا بَقِيع الغَرْقَد كبروا، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر، فلما انتهوا إليه قال‏:‏ ‏(‏أفلحت الوجوه‏)‏، قالوا‏:‏ ووجهك يا رسول الله، ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل علي جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده‏.‏

ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يري أن النصح لا يجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات وعدم احترام المواثيق، فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها ‏.‏

وهكذا تفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إلي حين ـ لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها من خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخري ‏.‏


*غزوة بُحْران :

وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر سنة 3 هـ إلى أرض يقال لها‏:‏ بحران ـ وهي مَعْدِن بالحجاز من ناحية الفُرْع ـ فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى ـ من السنة الثالثة من الهجرة ـ ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حرباً‏.




* سرية زيد بن حارثة :

وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد، وقعت في جمادي الآخرة سنة 3 هـ‏.‏

وتفصيلها‏:‏ أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف، واقترب موسم رحلتها إلى الشام، فأخذها هَمٌّ آخر‏.‏

قال صفوان بن أمية لقريش ـ وهو الذي نخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام‏:‏ إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل ‏؟‏ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك ‏؟‏ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء‏.‏ وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء‏.‏

ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان‏:‏ تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق ـ وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل ـ فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فُرَات بن حَيَّان ـ من بني بكر بن وائل ـ دليلاً له، ويكون رائده في هذه الرحلة‏.‏

وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء هذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة‏.‏ وذلك أن سَلِيط بن النعمان ـ كان قد أسلم ـ اجتمع في مجلس شرب ـ وذلك قبل تحريم الخمر ـ مع نعيم بن مسعود الأشجعي ـ ولم يكن أسلم إذ ذاك ـ فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها،فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وسلم يروي له القصة‏.‏

وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قيادة زيد بن حارثة الكلبي، وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة ـ على حين غرة ـ وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال له‏:‏ قَرْدَة ـ بالفتح فالسكون ـ فاستولي عليها كلها، ولم يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إلا الفرار بدون أي مقاومة‏.‏

وأسر المسلمون دليل القافلة ـ فرات بن حيان، وقيل‏:‏ ورجلين غيره ـ وحملوا غنيمة كبيرة من الأواني والفضة كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائة ألف، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، وأسلم فرات بن حيان على يديه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشاً بعد بدر، اشتد لها قلق قريش وزادتها هما وحزناً‏.‏ ولم يبق أمامها إلا طريقان،إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد، وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين بحيث لا يبقي لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميمها على الغزو في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد‏.‏ [/center]

القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الخميس 9 يونيو - 13:09



غـزوة أحـد



* استعداد قريش لمعركة ناقمة‏ :

كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر، حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأساري حتى لا يتفطن المسلمون مدي مأساتهم وحزنهم‏.‏

وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة‏.‏

وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة‏.‏

وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان، والتي كانت سبباً لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم‏:‏ يا معشر قريش، إن محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه ؛ لعلنا أن ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، وفي ذلك أنزل الله تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏

ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن أمية أغري أبا عزة الشاعر ـ الذي كان قد أسر في بدر، فَمَنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بألا يقوم ضده ـ أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حياً يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعراً آخر ـ مُسَافع بن عبد مناف الجمحي ـ لنفس المهمة‏.‏

وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزوة السَّوِيق خائباً لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقدارًا كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة‏.‏

وزاد الطينة بلة ـ أو زاد النار إذكاء، إن صح هذا التعبير ـ ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها، وزودها من الحزن والهم ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين‏.‏


* قوام جيش قريش وقيادته‏‏ :

ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأي قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة‏.‏

وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا فرس ، جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع‏.‏ وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل‏.‏ أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار‏.‏


* جيش مكة يتحرك‏ :

تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت التارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير‏.‏ الاستخبارات النبوية تكشف

* حركة العدو‏ :

وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها جميع تفاصيل الجيش‏.‏

وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة ـ التي تبلغ مسافتها إلى نحو خمسمائة كيلو متر ـ في ثلاثة أيام، وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء‏.‏

قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فأمره بالكتمان، وعاد مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار‏.‏


* استعداد المسلمين للطوارئ‏‏ :

وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة، استعداداً للطوارئ‏.‏

وقامت مفرزة من الأنصار ـ فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة ـ بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح‏.‏ وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها ؛ خوفا من أن يؤخذوا على غرة‏.‏

وقامت دوريات من المسلمين ـ لاكتشاف تحركات العدو ـ تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين‏.



* الجيش المكي إلى أسوار المدينة‏‏ :

وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى الأبْوَاء اقترحت هند بنت عتبة ـ زوج أبي سفيان ـ بنبش قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بَيدَ أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب،وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحو هذا الباب‏.‏

ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العَقيق، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد، في مكان يقال له‏:‏ عَينَيْن، في بطن السَّبْخَة من قناة على شفير الوادي ـ الذي يقع شمإلى المدينة بجنب أحـد، فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة‏.‏


*المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع‏ :

ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبراً بعد خبر حتى الخبر الأخير عن معسكره، وحينئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً عسكرياً أعلى ، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها، قال‏:‏ ‏(‏إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً يذبح، ورأيت في ذُبَاب سيفي ثُلْماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة‏)‏، وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة‏.‏

ثم قدم رأيه إلى صحابته ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها،فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بِشَرِّ مُقَام وبغير جدوي، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي‏.‏ ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين ـ وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج‏.‏ ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية، بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد، وشاء الله أن يفتضح هو وأصحابه ـ لأول مرة ـ أمام المسلمين وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه، ويتعرف المسلمون في أحرج ساعاتهم على تلك الأفاعي التي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم‏.‏

فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ومن غيرهم، فأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك حتى قال قائلهم‏:‏ يا رسول الله،كنا نتمني هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم‏.‏

وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان قد أبلي أحسن بلاء في معركة بدر ـ فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة ‏.‏

وتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه مراعاة لهؤلاء المتحمسين، واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر‏.‏

*تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال‏ :

ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك‏.‏ ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العَوَإلى ، ثم دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين ‏[‏أي لبس درعا فوق درع‏]‏ وتقلد السيف، ثم خرج على الناس‏.‏

وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير‏:‏ استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه،فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له‏:‏ يا رسول الله،ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه‏)‏ ‏.‏

وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب‏:‏

1‏.‏ كتيبة المهاجرين، وأعطي لواءها مصعب بن عمير العبدري‏.‏

2‏.‏ كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطي لواءها أسيد بن حضير‏.‏

3‏.‏ كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطي لواءها الحُبَاب بن المنذر‏.‏

وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع، ولم يكن فيهم من الفرسان أحد ،واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة،وآذن بالرحيل، فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبي صلى الله عليه وسلم يعدوان دارعين‏.‏

ولما جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل عنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين، فسأل‏:‏ ‏(‏هل أسلموا ‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏لا، فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك‏.


*استعراض الجيش‏‏ :

وعندما وصل إلى مقام يقال له‏:‏ ‏[‏الشيخان‏]‏ استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظُهَير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعَرَابَة بن أوْس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حَبَّة، ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم‏.‏

وأجاز رافع بن خَدِيج، وسَمُرَة بن جُنْدَب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه، فقال سمرة‏:‏ أنا أقوي من رافع،أنا أصرعه، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً‏.‏

* المبيت بين أحد والمدينة‏‏ :

وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك، واختار خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولي ذَكْوَان بن عبد قيس حراسة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة‏.



* تمرد عبد الله بن أبي وأصحابه‏ :

وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج، حتى إذا كان بالشَّوْط صلى الفجر، وكان بمقربة جداً من العدو، فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلاثمائة مقاتل ـ قائلاً‏:‏ ما ندري علام نقتل أنفسنا ‏؟‏ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره‏.‏

ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معني‏.‏ ولو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد ـ في ذلك الظرف الدقيق ـ أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأي ومسمع من عدوهم،حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتنهار معنويات من يبقي معه، بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه‏.‏

وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان ـ بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج ـ أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعدما سري فيهما الاضطراب، وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول الله تعالي‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏]‏‏.‏

وحاول عبد الله بن حَرَام ـ والد جابر بن عبد الله ـ تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول‏:‏ تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا‏:‏ لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً‏:‏ أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه‏.‏

وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏‏.‏

*بقية الجيش الإسلامي إلى أحد‏‏ :

وبعد هذا التمرد والانسحاب قام النبي صلى الله عليه وسلم ببقية الجيش ـ وهم سبعمائة مقاتل ـ ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة، فقال‏:‏ ‏(‏من رجل يخرج بنا على القوم من كَثَبٍ ـ أي من قريب ـ من طريق لا يمر بنا عليهم ‏؟‏‏)‏‏.‏

فقال أبو خَيثَمةَ‏:‏ أنا يارسول الله، ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحد يمر بحَرَّةِ بني حارثة وبمزارعهم، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب‏.‏

ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مِرْبَع بن قَيظِي ـ وكان منافقاً ضرير البصر ـ فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول‏:‏ لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله‏.‏ فابتدره القوم ليقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تقتلوه، فهذا الأعْمَى أعمى القلب أعمى البصر‏)‏‏.‏

ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد، وعلى هذا صار جيش العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة‏.‏

*خطة الدفاع‏:

وهناك عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال، فاختار منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطي قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قناة ـ وعرف فيما بعد بجبل الرماة ـ جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالى مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الإسلامي‏.‏

والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة، فقد قال لقائدهم‏:‏ ‏(‏انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك‏)‏ وقال للرماة‏:‏ ‏(‏احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا‏)‏، وفي رواية البخاري أنه قال‏:‏ ‏(‏إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم‏)‏‏.‏

بتعين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية التطويق‏.‏

أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد،وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف ‏.‏

ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً، تتجلي فيها عبقرية قيادة النبي صلى الله عليه وسلم لعسكرية، وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا؛ فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فإنه حمي ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمي ميسرته وظهره ـ حين يحتدم القتال ـ بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي، واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به ـ إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين ـ ولا يلتجئ إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدموا إليه،وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين، كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين‏.‏


هكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ‏.
*الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش‏‏ :

ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم، وظاهر بين درعين، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه حتى جرد سيفاً باتراً ونادي أصحابه‏:‏ ‏(‏من يأخذ هذا السيف بحقه‏؟‏‏)‏، فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم على بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة، فقال‏:‏ وما حقه يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه‏.‏

وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت‏.‏ فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة، وجعل يتبختر بين الصفين، وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن‏)‏‏.



*تعبئـة الجيش المكي‏ :

أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف، فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش، وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد ـ وكان إذ ذاك مشركاً ـ وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وعلى المشاة صفوان ابن أمية، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة‏.‏

أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار، وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي بن كلاب ـ كما أسلفنا في أوائل الكتاب ـ وكان لا يمكن لأحد أن ينازعهم في ذلك؛ تقيداً بالتقاليد التي ورثوها كابراً عن كابر، بيد أن القائد العام ـ أبا سفيان ـ ذكرهم بما أصاب قريشاً يوم بدر حين أسر حامل لوائهم النضر بن الحارث، وقال لهم ـ ليستفز غضبهم ويثير حميتهم‏:‏ يا بني عبد الدار، قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتي الناس من قبل راياتهم، وإذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه‏.‏

ونجح أبو سفيان في هدفه، فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب، وهموا به وتواعدوه وقالوا له‏:‏ نحن نسلم إليك لواءنا ‏؟‏ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع‏.‏ وقد ثبتوا عند احتدام المعركة حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم‏.‏


* مناورات سياسية من قبل قريش‏ :

وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين‏.‏ فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم‏:‏ خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، ، فلا حاجة لنا إلى قتالكم‏.‏ ولكن أين هذه المحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال، فقد رد عليه الأنصار رداً عنيفاً، وأسمعوه ما يكره‏.‏

واقتربت ساعة الصفر، وتدانت الفئتان، فقامت قريش بمحاولة أخري لنفس الغرض، فقد خرج إلى الأنصار عميل خائن يسمي أبا عامر الفاسق ـ واسمه عبد عمرو ابن صَيفِي، وكان يسمي الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شَرِق به، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه ـ فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعُبْدَان أهل مكة‏.‏ فنادي قومه وتعرف عليهم، وقال‏:‏ يا معشر الأوس، أنا أبو عامر‏.‏ فقالوا‏:‏ لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق‏.‏ فقال‏:‏ لقد أصاب قومي بعدي شر‏.‏ ـ ولما بدأ القتال قاتلهم قتالاً شديداً وراضخهم بالحجارة‏.‏

وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان‏.‏ ويدل عملهم هذا على ما كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم، مع كثرتهم وتفوقهم في العدد والعدة‏.‏

* جهود نسوة قريش في التحميس‏‏ :

وقامت نسوة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة، تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، فكن يتجولن في الصفوف، ويضربن بالدفوف؛ يستنهضن الرجال، ويحرضن على القتال، ويثرن حفائظ الأبطال، ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال، فتارة يخاطبن أهل اللواء فيقلن‏:‏

وَيْها بني عبد الــدار **

ويـها حُمَاة الأدبـــار **

ضـرباً بكـل بتـــــار **

وتارة يأززن قومهن على القتال وينشدن‏:‏

إن تُـقْبلُـوا نُعَانـِــق **

ونَفــْرِشُ النمـــارق **

أو تُـدْبِـرُوا نُفـَــارِق **

فــراق غيـر وَامـِق **



القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الأحد 19 يونيو - 13:07



*أول وقود المعركة‏‏ :

وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان، وآنت مرحلة القتال، وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه المسلمون كبش الكتيبة‏.‏ خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير ولم يمهله، بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه‏.‏

ورأي النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع فكبر، وكبر المسلمون وأثنى على الزبير، وقال في حقه‏:‏ ‏(‏إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير‏)‏ ‏.



* ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته‏ :

ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يقول‏:‏

إنَّ على أهْل اللوَاء حقــاً ** أن تُخْضَبَ الصَّعْدَة أو تَنْدَقَّا

فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته‏.‏

ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته، فأُدْلِعَ لسانُهُ ومات لحينه‏.‏ وقيل‏:‏ بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز، فتقدم إليه على بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه على فقتله‏.‏

ثم رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفْلَح بسهم فقتله، فحمل اللواء بعده أخوه كِلاَب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجُلاَس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته‏.‏ وقيل‏:‏ بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضي عليه‏.‏

هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، قتلوا جميعاً حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شُرَحْبِيل، فقتله على بن أبي طالب، وقيل‏:‏ حمزة بن عبد المطلب، ثم حمله شُرَيح بن قارظ فقتله قُزْمَان ـ وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام ـ ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضاً، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً‏.‏

فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار ـ من حمله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء‏.‏ فتقدم غلام لـهم حبشي ـ اسمه صُؤَاب ـ فحمل اللواء، وأبدي من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلا يسقط، حتى قتل وهو يقول‏:‏ اللّهم هل أعزرت ‏؟‏ يعني هل أعذرت‏؟‏‏.‏

وبعد أن قتل هذا الغلام ـ صُؤاب ـ سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطاً‏.‏

* القتال في بقية النقاط‏‏ :

وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين كان القتال المرير يجري في سائر نقاط المعركة، وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود، وهم يقولون‏:‏ ‏[‏أمت، أمت‏]‏ كان ذلك شعاراً لهم يوم أحد‏.‏

أقبل أبو دُجَانة معلماً بعصابته الحمراء، آخذاً بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، مصمماً على أداء حقه، فقاتل حتى أمعن في الناس، وجعل لا يلقي مشركاً إلا قتله، وأخذ يهد صفوف المشركين هدّا‏.‏قال الزبير بن العوام‏:‏ وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت ـ أي في نفسي‏:‏ أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه، فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع ‏؟‏ فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار‏:‏ أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فخرج وهو يقول‏:‏

أنا الذي عاهـدني خليلي ** ونحـن بالسَّفْح لدى النَّخِيل

ألا أقوم الدَّهْرَ في الكَيول ** أضْرِبْ بسَيف الله والرسول

فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحاً إلا ذَفَّفَ عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فَعَضَّتْ بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله ‏.‏

ثم أمعن أبو دجانة في هدِّ الصفوف، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش، وهو لا يدري بها‏.‏ قال أبو دجانة‏:‏رأيت إنساناً يخْمِش الناس خمشاً شديداً، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولَوْلَ، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة‏.‏

وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة‏.‏ قال الزبير بن العوام‏:‏ رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها، فقلت‏:‏الله ورسوله أعلم ‏.‏

وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير، ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء، فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين، حتى صرع وهو في مقدمة المبرزين، ولكن لا كما تصـرع الأبطال وجهاً لوجـه في ميدان القتـال، وإنما كمـا يغتال الكرام في حلك الظـلام‏.‏

* مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب‏ :

يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب‏:‏ كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم، وكان عمه طُعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير‏:‏ إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق‏.‏ قال‏:‏ فخرجت مع الناس ـ وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً ـ فلما التقي الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأوْرَق، يهُدُّ الناس هدّا ما يقوم له شيء‏.‏ فوالله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سِبَاع بن عبد العزي، فلما رآه حمزة قال له‏:‏ هلم إلى يابن مُقَطِّعَة البُظُور ـ وكانت أمه ختانة ـ قال‏:‏ فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه ‏.‏

قال‏:‏ وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثُنَّتِه ـ أحشائه ـ حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت ‏
.‏


* السيطرة على الموقف‏‏ :

وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله‏.‏ فقد قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فَلَّ عزائم المشركين، وفتَّ في أعضادهم‏.‏

* من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة‏‏ :

وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حَنْظَلة الغَسِيل ـ وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق، والذي مضي ذكره قريباً ـ كان حنظلة حديث عهد بالعُرْس، فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقي بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله‏.

*نصيب فصيلة الرماة في المعركة‏ :

وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلاث مرات؛ ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر، حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث‏.‏


* الهزيمة تنزل بالمشركين‏‏ :

هكذا دارت رحي الحرب الزَّبُون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرًا على الموقف كله حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين‏.‏

وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها ـ حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل صُؤاب فيحمله ليدور حوله القتال ـ فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادة العز والمجد والوقار‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لاشك فيها‏.‏

روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال‏:‏ والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم ـ سوق ـ هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح‏:‏ فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن ‏.‏ وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم‏.‏

* غلطة الرماة الفظيعة‏‏ :

و
بينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخري نصراً ساحقاً على أهل مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون سبباً في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، وعلى الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر‏.‏

لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة، ولكن على رغم هذه الأوامر المشددة لما رأي هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض‏:‏ الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون ‏؟‏

أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت‏:‏ والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ‏.‏ ثـم غـادر أربعون رجلاً أو أكثر هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسَوَاد الجيش ليشاركـوه فـي جمع الغنائم‏.‏ وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا‏.‏

* خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي‏ :

وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم ـ وهي عمرة بنت علقمة الحارثية ـ فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادي بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شِقَّي الرحي‏.‏


* موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق‏ :

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ في مؤخرة المسلمين ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان‏:‏ إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد‏.‏

وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه‏:‏ ‏(‏إلي عباد الله‏)‏، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق‏.‏

وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون‏.‏


* تبدد المسلمين في الموقف‏‏ :

أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها‏؟‏ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل‏.‏

ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض‏.‏ روي البخاري عن عائشة قالت‏:‏ لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس‏:‏ أي عباد الله أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال‏:‏ أي عباد الله أبي أبي‏.‏ قالت‏:‏ فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة‏:‏ يغفر الله لكم‏.‏ قال عروة‏:‏ فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله ‏.‏

وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضي، وتاه منها الكثيرون؛لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح‏:‏ إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان‏.‏ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال‏:‏ ما تنتظرون ‏؟‏ فقالوا‏:‏ قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ما تصنعون بالحياة بعده ‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال‏:‏ أين يا أبا عمر ‏؟‏ فقال أنس‏:‏ واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته ـ بعد نهاية المعركة ـ ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم ‏.‏

ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال‏:‏ يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم‏.‏ فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه ‏.‏

ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه، فقال‏:‏ يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل ‏؟‏ فقال الأنصاري‏:‏ إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ، فقاتلوا عن دينكم ‏.‏

وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي، وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مُخْتَلَق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع، بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة‏.‏

وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل التطويق فى بدايته، وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا فى مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة ـ عليه الصلاة والسلام والتحية ـ صاروا فى مقدمة المدافعين‏.


*احتدام القتال حول رسول الله‏‏ :

وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق، وتطحن بين شِقَّي رَحَي المشركين، كان العراك محتدماً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة نفر، فلما نادي المسلمين‏:‏ ‏(‏هلموا إلي، أنا رسول الله‏)‏، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجري بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة‏.‏

روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال‏:‏ ‏(‏من يردهم عنا وله الجنة ‏؟‏ أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال‏:‏ ‏(‏من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه ـ أي القرشيين‏:‏ ‏(‏ما أنصفنا أصحابنا‏)‏ ‏.‏

وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط ‏.‏



* أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم‏ :

وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال‏:‏ لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد الله وسعد ـ بن أبي وقاص ـ وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكُلِمَتْ شفته السفلي، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخري عنيفة كالأولي حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه، وقال‏:‏ خذها وأنا ابن قمئة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهة‏:‏ ‏(‏أقمأك الله‏)‏ ‏.‏

وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول‏:‏ ‏(‏كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله‏)‏، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏128‏]‏ ‏.‏

وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ‏:‏ ‏(‏اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله‏)‏، ثم مكث ساعة ثم قال‏:‏ ‏(‏اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏ ، وفي صحيح مسلم أنه قال‏:‏‏(‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏ ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏

ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا ـ وهما اثنان فحسب ـ سبيلا ً إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال‏:‏‏(‏ارم فداك أبي وأمي‏)‏ ‏.‏ ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد‏.‏

وأما طلحة بن عبيد الله فقد روي النسائي عن جابر قصة تَجَمَّع المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، قال جابر‏:‏ فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏من للقوم ‏؟‏‏)‏ فقال طلحة‏:‏ أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحداً بعد واحد، بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة‏.‏ قال جابر‏:‏ ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال‏:‏ حَسِّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو قلت‏:‏ بسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون‏)‏، قال‏:‏ ثم رد الله المشركين ‏.‏ ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها ‏.‏

وروي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏.‏

وروي الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ‏:‏ ‏(‏من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله‏)‏ ‏.‏

وروي أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت‏:‏ كان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال‏:‏ ذلك اليوم كله لطلحة‏.‏

وقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً‏:‏

يا طلحة بن عبيد الله قد وَجَبَتْ ** لك الجنان وبُوِّئتَ المَهَا العِينَا

وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب، ففي الصحيحين عن سعد، قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد‏.‏ وفي رواية‏:‏ يعني جبريل وميكائيل‏.‏

* بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم‏ :

وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف، أو يسمعوا صوته صلى الله عليه وسلم حتى أسرعوا إليه ؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات ـ وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماته‏.‏ وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

روي ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت‏:‏ قال أبو بكر الصديق‏:‏ لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت‏:‏ كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، ‏[‏حيث فاتني ما فاتني، فقلت‏:‏ يكون رجل من قومي أحب إلي‏]‏ فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دونكم أخـاكم فقـد أوجب‏)‏، وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال‏:‏ فأخذ بفيه فجعل ينَضِّـضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استل السهم بفيه، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر‏:‏ ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال‏:‏فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخري، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏دونكم أخاكم، فقد أوجب‏)‏، قال‏:‏ فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة ‏.‏ وفي تهذيب تاريخ دمشق ‏:‏ فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر، بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه‏.‏

وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة، ومصعب بن عمير، وعلى بن أبي طالب ، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية، وقتادة ابن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو طلحة‏.

* تضاعف ضغط المشركين‏ :

كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجُحِشَتْ ركبته، وأخذه على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوي قائماً، وقال نافع بن جبير‏:‏ سمعت رجلاً من المهاجرين يقول‏:‏ شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ‏:‏ دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال‏:‏ والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك ‏.‏

* البطولات النادرة‏ :

وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيراً‏.‏ كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو‏.‏ قال أنس‏:‏ لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له، وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجَعْبَة من النبل فيقول‏:‏ ‏(‏انثرها لأبي طلحة‏)‏، قال‏:‏ ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة‏:‏ بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نَحْرِي دون نحرك ‏.‏

وعنه أيضاً قال‏:‏ كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرَّمْي، فكان إذا رمي تشرف النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى موقع نبله‏.‏

وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَرَّسَ عليه بظهره‏.‏ والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك‏.‏

وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الرَّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب‏.‏

وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان‏:‏ أن رسول الله رمي عن قوسه حتى اندقت سِيتُها ، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وَجْنَتِه، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما‏.‏

وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج‏.‏

وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال‏:‏ ‏(‏مُجَّه‏)‏، فقال‏:‏ والله لا أمجه، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا‏)‏، فقتل شهيداً‏.‏

وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً‏.‏

وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسري، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسري، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح‏:‏ إن محمداً قد قتل ‏.‏

* إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأثره على المعركة‏ :

ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين‏.‏ وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضي والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلي المسلمين‏.




* الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف‏ :

ولما قتل مصعب أعطي رسول الله اللواء على بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة، يقاتلون ويدافعون‏.‏

وحينئذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون ـ إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة‏.‏

وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم ؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام ‏.‏

تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعطف عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن الصِّمَّة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامر ذو العصابة الحمراء ـ على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه‏.‏

وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه القرآن‏.‏ قال أبو طلحة‏:‏ كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ‏.‏

وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظم ـ إلى شعب الجبل، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏



القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف تسنيم الجنان الأحد 19 يونيو - 14:34

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 86648_hanein.info
تسنيم الجنان
تسنيم الجنان
همسات اسلامية

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Adare
عدد المساهمات : 3861
نقاط : 11902
السٌّمعَة : 6
تاريخ التسجيل : 08/08/2010
الموقع : ♥فيني هدوء الكون وفيني جنونه♥

https://hmsat-islam.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف القعقاع الأحد 19 يونيو - 18:04

تسنيم الجنان كتب:
السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 86648_hanein.info

وجزاكم الخير كله
ابنتنا الفاضلة
تسنيم الجنان

القعقاع
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

الاوسمه : السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 1102280606334a47a070
عدد المساهمات : 991
نقاط : 6327
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 31/03/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السيرة النبوية الشريفة - صفحة 2 Empty رد: السيرة النبوية الشريفة

مُساهمة من طرف الزهراء الإثنين 20 يونيو - 0:00

ما شاء الله ربنا يجازيك عنا خير الجزاء والدنا الفاضل وتقبل مني خالص التقدير والإحترام ودوما منتظرين إطلالتك العطرة علينا بكل جديد وطيب

الزهراء
شخصية مميـزة
شخصية مميـزة

عدد المساهمات : 1813
نقاط : 9153
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 26/12/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 2 من اصل 3 الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى