وما ضعفوا وما استكانوا
صفحة 1 من اصل 1
وما ضعفوا وما استكانوا
وما ضعفوا وما استكانوا
جُبلت النفوس على التأثُّر بالهزيمة، سواء كانت عسكريَّة أم سياسيَّة أم حتَّى رياضيَّة، ويزيد تأثُّرها حدَّةً إذا حدثت الهزيمة بفِعْل عوامل عدائيَّة استعلائيَّة صارخة، فيؤدِّي ذلك إلى ألوانٍ من الوهن والضَّعف والاستِكانة، وهي تكْريس فعليٌّ للهزيمة وإيذان بتجذُّرها؛ لكنَّ نفوس المؤمنين التي احترقت بالتَّربية الإيمانيَّة تشذُّ عن القاعدة، فلا تزيدها الانتِكاسات المبَرْمجة والمعارك الظرفيَّة الخاسرة إلاَّ إيمانًا باطِّراد سنَّة الابتِلاء، وتمسّكًا بالمنهج الرَّبَّاني والغايات السَّامية، بعيدًا عن كلِّ أنْواع الانكِسار والتَّخاذُل؛ {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
هذه الجماهير المؤمِنة الغفيرة تنالُها سنَّة الابتِلاء، وتعترِضها بعض الهزائِم الجزئيَّة فتُقابلها بمواقف إيمانيَّة ثابتة، تنفي زلْزلة الصُّفوف، وخلْخلة النُّفوس، والرُّكون إلى الاستسلام والقعود.
نعم، هناك إحْساس بأنياب الألم تدمي القلوب، لكنَّه يُورث الإيجابيَّة بدَل السلبيَّة، ويقوِّي العزائم بدل توْهينها، ويأتي التَّعبير القرآني دقيقًا جامعًا، فالصَّدمة غير المحروسة بالإيمان الرَّاسخ تبدأ بالضعضعة في الصَّف؛ لتنتقل إلى النفوس في شكل ضعف وتلاشٍ للقوَّة الروحيَّة المعنويَّة، وتنتهي بالاستِكانة والقعود والانسحاب من ساحات العمل والتضحية، وأمَّا الزمرة الربَّانيَّة فإنَّها سُرْعان ما تفيق من وقع الضَّربة غير المنتظرة، وتتصدَّى لمواصلة الطَّريق الدعويِّ أو الجهاديِّ أو السِّياسي، في صفٍّ مرْصوص وبِمعنويَّاتٍ مرتفعة، وإقْبال عنيد على الحضور الفعليِّ المُجْدي في المجال الَّذي يظنُّ الخصوم والأعداء أنَّهم أبعدوها عنه بوسائلهم المثبِّطة الكثيرة، وإنَّ مكرهم لتزول منه الجبال، بهذا الثبات الواعي يتمُّ بناء لبنة وسط الإكراهات الطبيعيَّة والمصطنعة، والأمر كلُّه يدور حول الصبر؛ أي: الاستعداد المغروس في النفوس البشرية والصف الرسالي لتحمُّل المكاره الماديَّة والنفسيَّة، في سبيل الغاية الخالصة من الحظوظ الذاتيَّة، وإذا كانت الرُّؤية بهذا الوضوح تفقد الصَّدمات فعاليتها السلبيَّة وتتحوَّل إلى محفِّزات تقوِّي العزائم، وتُعين على طول الطَّريق وعقابيله، فمن أين للصفِّ المؤمن أن يجزع أو يفزع أو يخور أو يستقيل؟!
لكن يجب الانتِباه إلى أنَّ السَّلامة من الوهن، والضَّعف والاستِكانة، والتحلِّي بالعزيمة والقوَّة والإقدام - لا يُعْفِي المسلمين - جماعات وحركاتٍ وأفرادًا - من المحاسبة والنقْد الذاتيّ، فقد يكون الخيرُ الَّذي فاتهم والشرُّ الَّذي نالَهم ابتِلاءً يصبرون عليه، كما قد يكون عقوبة على أخطاء روحية، أو حركيَّة سياسيَّة يجب الالتِفاف إليْها بالمعالجة من غير تردُّد، وبعيدًا عن ذهنيَّة التَّآمُر والتَّبرير، بهذا تخرج الجماعة المسلمة من التَّجرِبة برصيدٍ أكثرَ ثراءً لتُواصل السَّير المرْحليّ مطمئنَّة إلى ثبات الأبْناء وثقة الجماهير، ورعاية الله - تعالى - قبل ذلك وبعده.
هذه طريق الإيجابية والهمَّة والرُّسوخ والنَّصر، وفقه المعوِّقات والهزائم - أمرٌ ضروريُّ وبالغ الأهميَّة للصفّ الإسلامي؛ لأنَّ سيرته محفوفة بمخاطر متنوِّعة تحتاج إلى العلاج المناسب في حينها وإلاَّ جرَّت الويلات، ذلك أنَّ مرارة الهزيمة أو الظلم الذي لا يمكن دفعه قد توحي إلى المنهزم أو المظلوم ردود أفعال آنية، تغلب عليها العاطفة، فلا تبصر مواطن الخطَر؛ لأنَّ الشّحْنة الانفعاليَّة لم تترك مكانًا لنظْرة العقْل، فقد يظنُّ النَّاس أن نفْي الضَّعف والاستِكانة عنهم يعني ردَّ الفعل العنيف أو الفوْري أو الحماسي، وهذا فهْم خاطئ؛ لذلك أكَّدْنا على ضرورة الفِقْه؛ أي: الفهْم العميق الدَّقيق الَّذي يوازن بين نصوص الشَّرع ومتطلَّبات الواقع، وهو الفقه الَّذي ظهرت ثمراتُه الطيِّبة بعد صلح الحديبية، الَّذي رأت فيه النظرة السطحيَّة - وهي في الوقت نفسِه مفعمة بالإيمان القويِّ - ضعفًا واستكانة، فتبيَّن أنَّ الصلح كان فتحًا مبينًا، ولكنَّ حجاب المعاصرة حال دون إبْصار ذلك إبَّان إبرامه.
ومن أبْرز التَّجارب الَّتي مرَّت بالصَّفِّ الإسلاميِّ في الحقبة الأخيرة: ما حدث لحزبٍ إسلاميٍّ في الجزائر رفض "الضَّعف والاستِكانة"، فتمرَّد على حرمانه من الفوْز الانتِخابيِّ بكلِّ قوَّة، بعيدًا عن الدِّراسة الهادئة والتَّخطيط، فاستدرج الحزْب والمجتمع كلَّه إلى فتنة عمياء، تراجع معها العمل الإسلامي والدَّعوة إلى الله تعالى تراجُعًا كبيرًا.
أمَّا التجربة الأخرى، فقد حدثت في تركيا، وتكرَّرت بأشكال أخرى منذ ستينيات القرن العشْرين، وكان طرفاها دائمًا: الجيش الحارس للعلمانية من جهة، والإسلاميين من جهة ثانية، فهؤلاء تجاوزوا كلّ العراقيل القانونية والسياسية والعسكريَّة بطرق سلميَّة ذكيَّة، فكلَّما حلَّ العسكر حزْبَهم أنشؤوا حزبًا آخَر أو غيَّروا الاسم، أو حملوا إلى الواجهة وجوهًا جديدةً، فكانت النتيجة أنَّ استمرار المواجهة بين الطَّرفين لم يقضِ على الإسلاميين ولا حيَّدهم، ولا أخرجهم من ساحة الوجود في تركيا؛ لأنّهم لم يضْعُفوا ولم يستكينوا، وفي نفْس الوقت لم يتركوا الانفِعال يقودُهم إلى مواقف وخيمة العواقب.
والعبرة من كلّ هذا: أنَّ ثبات الصفِّ الإسلامي بناءً على الفهم العميق لمختلف جوانب الموقف والتحلِّي بالصبر الإيجابي هو المنهج الضَّامن للسَّلامة والاستمراريَّة، إذا أردنا الانخِراط في حركة الفعل المجْدي، والتَّغيير المنهجيّ المستصحب لعبر التَّاريخ وأدوات النَّجاح.
والفقْه الَّذي أشرنا إليه ضروري لا يُمكن الاستِغْناء عنه بأيِّ حال؛ لأنَّه يمدُّنا بالمعرفة اللازمة فيلجم نزوات العواطف بنظرات العقول، فلا تطغى المشاعِر ولا يغيب العلم، وإنَّما تحدث النتائج الصحيحة كلَّما استوت معادلة المشاعر والمعارف، على قاعدة التَّوازُن في خطط الحركة الإسلاميَّة، وتشربها أفرادها وأخذوا بها كمنهج أصيل، يحرصون عليه كحرصهم على الدَّعوة نفسها؛ ذلك أنَّ سلامة الغاية من سلامة الوسيلة، وهذا ما يمكن الوقوف عليه في صلح الحديبية المشار إليه، سواء في بنوده الَّتي يبدو عليها الإجحاف في حقِّ المسلمين، أو تطبيق بعض هذه البنود مباشرةً بعد التَّوقيع، فالصَّحابة الّذين أحسُّوا بالأسى، وتجرَّحوا الحيف من النَّاحية النظريَّة؛ حيث قبول شروط قريش، لم يكادوا يسترْجِعون أنفاسهم من هول هذه الصَّدمة حتَّى بدأ تطبيق الاتّفاقية في الواقع، واضطرَّ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفاءً بالعهد إلى ردِّ مَن جاؤوه مكبَّلين بالسلاسل أمام أعيُن الصَّحابة، الّذين لم يعودوا تحت وطأة معاهدة مختلَّة مجحِفة فحسب.
بل شاهدوا بأعيُنِهم تطبيق بعض بنودها، لكنَّهم تحكَّموا في عواطفهم وتجاوزوا ما يرَوْنَه بأعينهم، واطمأنُّوا إلى ما رآه قائدهم - عليْه الصَّلاة والسلام - بالوحْي، فهم لم يهِنُوا لما أصابهم من ضرر نفسيٍّ، ولم يرْضخوا للأمر الواقع؛ بل بدأ التَّعامُل الذكيُّ مع الوضع الجديد أثْناء المحنة نفسها، فقد أشار الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى من جاءه مسلمًا واضطرَّ إلى ردِّه بأنَّ الله سيجعل له مخرجًا، ففهم الرَّجُل الإشارة وتخلَّص في الطريق من حرَّاسه، وأقام مع بعض رُفقائه نقطة توتُّر تؤرِّق المشركين، فما كان من هؤلاء إلاَّ أن تنازلوا - هم - عن الشُّروط التي كانوا قد أمْلَوها على الطَّرف الإسلاميِّ أثناء المفاوضات.
إنَّ الصفَّ الإسلامي يحزن ويتألَّم لما أصابه من مكرٍ وتآمرٍ؛ لكنَّ ذلك لا يخلد به إلى الأرض، بل يبقى ممسكًا بأسباب النهوض والعوْدة، ويعالج جراحاته النفسيَّة وتتضاعف عنده المبادرة والجرأة وإرادة النجاح، وهكذا لا تَثنيه دركات الهبوط عن طلب مراقي الصُّعود، ولا يثبِّطه إخفاق ظرفي عن اقتِحام ساحات العمل والفوز، وهو على كلِّ حال يتحرَّك في سبيل الله، فيرضى بكلِّ ما يصيبه في هذا السَّبيل؛ فهو سؤدد في الدنيا، وذخْرٌ في الآخِرة.
ويُعْطينا الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - درسًا عمليًّا في هذا المعنى بعد غزْوة أحد، فقد حدث الانكِسار في الجولة الثانية من القتال، ودارت الدائرة على المسلمين، فأعمل فيهم المشرِكون السَّيف، وقتلوا سبعين من صناديد الصَّحابة - رضي الله عنهم - ونفذوا إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلِّم - نفسِه وطمعوا في قتله؛ بل شاع خبر موته حتَّى كاد يوهن الصفُّ الإسلامي، ثمَّ تداركه الله بلُطْفِه فانسحب الجيش الكافِر، ورجع المسلمون إلى المدينة مُنْهَكي القوى مهيضي الأجنحة، ولو بقِي الأمر بهذا الوضْع، لأمكن أن تتسرَّب الهزيمة إلى نفوس كثير من الصَّحابة، ولعلت راية الشِّرْك بالزَّهو.
لذلك أقدم الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الغد على خطوة فذَّة جريئة تثلج صدور المؤمنين، وتعكِّر على المشركين نَصْرَهم؛ أي: تنقل الهزيمة النفسيَّة - الوهن والضَّعف والاستِكانة - من الصفِّ المنهزم في المعركة العسكريّة، فيسترجع عافيته النفسيَّة إلى الصفِّ المنتصر فيصبح هو المنهزم حقًّا.
يقول الشَّيخ صفي الرَّحمن المباركفوري في كتابه "الرحيق المختوم":
"وبات الرَّسول - أي: بعد العودة إلى المدينة من أحد - وهو يفكِّر في الموقف، فقد كان يخاف أنَّ المشركين إن فكَّروا في أنَّهم لم يستفيدوا شيئًا من النَّصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القِتال، فلا بدَّ أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطَّريق لغزْو المدينة مرَّة ثانيةً، فصمَّم على أن يقوم بعمليَّة مطاردة الجيش المكِّي ... فنادى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في النَّاس وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدوِّ، وذلك صباح الغد من معركة أحد .... وقال: ((لا يَخرج معنا إلاَّ مَن شهِدوا القتال)) .... واستجاب له المسلمون على ما بِهم من الجرح الشَّديد والخوف المزيد، وقالوا: سمعًا وطاعةً ..... وسار رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - والمسلِمون معه حتَّى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة، فعسكروا هناك ..... وحينئذٍ انهارتْ عزائم الجيْش المكِّي وأخذه الفزَع والرُّعْب، فلم ير العافية إلاَّ في مواصلة الانسِحاب والرُّجوع إلى مكَّة ..... وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ غزوة حمْراء الأسد ليست بغزْوة مستقلَّة إنَّما هي جزء من غزْوة أحد، وتتمَّة لها، وصفحة من صفحاتها" (ص 286 - 287 بتصرّف).
هكذا ثبَّت الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - نفوس المسلمين بتدْبيره الحكيم، وجعل المشْركين على شعور أدْنى إلى الهزيمة منْه إلى النَّصر، فالنِّهاية لم تكْتُبْها وقائع ميدان القِتال وإنَّما نفوس الرِّجال، نفوس قويَّة مدجَّجة بالثِّقة هنا، ونفوس اعتراها الخوف هناك.
هذا؛ وقد ورد نَهي المؤمنين عن الوهن بكلِمات قرآنيَّة صريحة:
- {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [آل عمران: 139].
- {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
- {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104].
والوهن هو الخطْوة الأولى في الهزيمة النفسيَّة، فنهى الله عنْه؛ حتى لا يفضي إلى ما بعده من الضعف والاستِكانة.
جُبلت النفوس على التأثُّر بالهزيمة، سواء كانت عسكريَّة أم سياسيَّة أم حتَّى رياضيَّة، ويزيد تأثُّرها حدَّةً إذا حدثت الهزيمة بفِعْل عوامل عدائيَّة استعلائيَّة صارخة، فيؤدِّي ذلك إلى ألوانٍ من الوهن والضَّعف والاستِكانة، وهي تكْريس فعليٌّ للهزيمة وإيذان بتجذُّرها؛ لكنَّ نفوس المؤمنين التي احترقت بالتَّربية الإيمانيَّة تشذُّ عن القاعدة، فلا تزيدها الانتِكاسات المبَرْمجة والمعارك الظرفيَّة الخاسرة إلاَّ إيمانًا باطِّراد سنَّة الابتِلاء، وتمسّكًا بالمنهج الرَّبَّاني والغايات السَّامية، بعيدًا عن كلِّ أنْواع الانكِسار والتَّخاذُل؛ {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
هذه الجماهير المؤمِنة الغفيرة تنالُها سنَّة الابتِلاء، وتعترِضها بعض الهزائِم الجزئيَّة فتُقابلها بمواقف إيمانيَّة ثابتة، تنفي زلْزلة الصُّفوف، وخلْخلة النُّفوس، والرُّكون إلى الاستسلام والقعود.
نعم، هناك إحْساس بأنياب الألم تدمي القلوب، لكنَّه يُورث الإيجابيَّة بدَل السلبيَّة، ويقوِّي العزائم بدل توْهينها، ويأتي التَّعبير القرآني دقيقًا جامعًا، فالصَّدمة غير المحروسة بالإيمان الرَّاسخ تبدأ بالضعضعة في الصَّف؛ لتنتقل إلى النفوس في شكل ضعف وتلاشٍ للقوَّة الروحيَّة المعنويَّة، وتنتهي بالاستِكانة والقعود والانسحاب من ساحات العمل والتضحية، وأمَّا الزمرة الربَّانيَّة فإنَّها سُرْعان ما تفيق من وقع الضَّربة غير المنتظرة، وتتصدَّى لمواصلة الطَّريق الدعويِّ أو الجهاديِّ أو السِّياسي، في صفٍّ مرْصوص وبِمعنويَّاتٍ مرتفعة، وإقْبال عنيد على الحضور الفعليِّ المُجْدي في المجال الَّذي يظنُّ الخصوم والأعداء أنَّهم أبعدوها عنه بوسائلهم المثبِّطة الكثيرة، وإنَّ مكرهم لتزول منه الجبال، بهذا الثبات الواعي يتمُّ بناء لبنة وسط الإكراهات الطبيعيَّة والمصطنعة، والأمر كلُّه يدور حول الصبر؛ أي: الاستعداد المغروس في النفوس البشرية والصف الرسالي لتحمُّل المكاره الماديَّة والنفسيَّة، في سبيل الغاية الخالصة من الحظوظ الذاتيَّة، وإذا كانت الرُّؤية بهذا الوضوح تفقد الصَّدمات فعاليتها السلبيَّة وتتحوَّل إلى محفِّزات تقوِّي العزائم، وتُعين على طول الطَّريق وعقابيله، فمن أين للصفِّ المؤمن أن يجزع أو يفزع أو يخور أو يستقيل؟!
لكن يجب الانتِباه إلى أنَّ السَّلامة من الوهن، والضَّعف والاستِكانة، والتحلِّي بالعزيمة والقوَّة والإقدام - لا يُعْفِي المسلمين - جماعات وحركاتٍ وأفرادًا - من المحاسبة والنقْد الذاتيّ، فقد يكون الخيرُ الَّذي فاتهم والشرُّ الَّذي نالَهم ابتِلاءً يصبرون عليه، كما قد يكون عقوبة على أخطاء روحية، أو حركيَّة سياسيَّة يجب الالتِفاف إليْها بالمعالجة من غير تردُّد، وبعيدًا عن ذهنيَّة التَّآمُر والتَّبرير، بهذا تخرج الجماعة المسلمة من التَّجرِبة برصيدٍ أكثرَ ثراءً لتُواصل السَّير المرْحليّ مطمئنَّة إلى ثبات الأبْناء وثقة الجماهير، ورعاية الله - تعالى - قبل ذلك وبعده.
هذه طريق الإيجابية والهمَّة والرُّسوخ والنَّصر، وفقه المعوِّقات والهزائم - أمرٌ ضروريُّ وبالغ الأهميَّة للصفّ الإسلامي؛ لأنَّ سيرته محفوفة بمخاطر متنوِّعة تحتاج إلى العلاج المناسب في حينها وإلاَّ جرَّت الويلات، ذلك أنَّ مرارة الهزيمة أو الظلم الذي لا يمكن دفعه قد توحي إلى المنهزم أو المظلوم ردود أفعال آنية، تغلب عليها العاطفة، فلا تبصر مواطن الخطَر؛ لأنَّ الشّحْنة الانفعاليَّة لم تترك مكانًا لنظْرة العقْل، فقد يظنُّ النَّاس أن نفْي الضَّعف والاستِكانة عنهم يعني ردَّ الفعل العنيف أو الفوْري أو الحماسي، وهذا فهْم خاطئ؛ لذلك أكَّدْنا على ضرورة الفِقْه؛ أي: الفهْم العميق الدَّقيق الَّذي يوازن بين نصوص الشَّرع ومتطلَّبات الواقع، وهو الفقه الَّذي ظهرت ثمراتُه الطيِّبة بعد صلح الحديبية، الَّذي رأت فيه النظرة السطحيَّة - وهي في الوقت نفسِه مفعمة بالإيمان القويِّ - ضعفًا واستكانة، فتبيَّن أنَّ الصلح كان فتحًا مبينًا، ولكنَّ حجاب المعاصرة حال دون إبْصار ذلك إبَّان إبرامه.
ومن أبْرز التَّجارب الَّتي مرَّت بالصَّفِّ الإسلاميِّ في الحقبة الأخيرة: ما حدث لحزبٍ إسلاميٍّ في الجزائر رفض "الضَّعف والاستِكانة"، فتمرَّد على حرمانه من الفوْز الانتِخابيِّ بكلِّ قوَّة، بعيدًا عن الدِّراسة الهادئة والتَّخطيط، فاستدرج الحزْب والمجتمع كلَّه إلى فتنة عمياء، تراجع معها العمل الإسلامي والدَّعوة إلى الله تعالى تراجُعًا كبيرًا.
أمَّا التجربة الأخرى، فقد حدثت في تركيا، وتكرَّرت بأشكال أخرى منذ ستينيات القرن العشْرين، وكان طرفاها دائمًا: الجيش الحارس للعلمانية من جهة، والإسلاميين من جهة ثانية، فهؤلاء تجاوزوا كلّ العراقيل القانونية والسياسية والعسكريَّة بطرق سلميَّة ذكيَّة، فكلَّما حلَّ العسكر حزْبَهم أنشؤوا حزبًا آخَر أو غيَّروا الاسم، أو حملوا إلى الواجهة وجوهًا جديدةً، فكانت النتيجة أنَّ استمرار المواجهة بين الطَّرفين لم يقضِ على الإسلاميين ولا حيَّدهم، ولا أخرجهم من ساحة الوجود في تركيا؛ لأنّهم لم يضْعُفوا ولم يستكينوا، وفي نفْس الوقت لم يتركوا الانفِعال يقودُهم إلى مواقف وخيمة العواقب.
والعبرة من كلّ هذا: أنَّ ثبات الصفِّ الإسلامي بناءً على الفهم العميق لمختلف جوانب الموقف والتحلِّي بالصبر الإيجابي هو المنهج الضَّامن للسَّلامة والاستمراريَّة، إذا أردنا الانخِراط في حركة الفعل المجْدي، والتَّغيير المنهجيّ المستصحب لعبر التَّاريخ وأدوات النَّجاح.
والفقْه الَّذي أشرنا إليه ضروري لا يُمكن الاستِغْناء عنه بأيِّ حال؛ لأنَّه يمدُّنا بالمعرفة اللازمة فيلجم نزوات العواطف بنظرات العقول، فلا تطغى المشاعِر ولا يغيب العلم، وإنَّما تحدث النتائج الصحيحة كلَّما استوت معادلة المشاعر والمعارف، على قاعدة التَّوازُن في خطط الحركة الإسلاميَّة، وتشربها أفرادها وأخذوا بها كمنهج أصيل، يحرصون عليه كحرصهم على الدَّعوة نفسها؛ ذلك أنَّ سلامة الغاية من سلامة الوسيلة، وهذا ما يمكن الوقوف عليه في صلح الحديبية المشار إليه، سواء في بنوده الَّتي يبدو عليها الإجحاف في حقِّ المسلمين، أو تطبيق بعض هذه البنود مباشرةً بعد التَّوقيع، فالصَّحابة الّذين أحسُّوا بالأسى، وتجرَّحوا الحيف من النَّاحية النظريَّة؛ حيث قبول شروط قريش، لم يكادوا يسترْجِعون أنفاسهم من هول هذه الصَّدمة حتَّى بدأ تطبيق الاتّفاقية في الواقع، واضطرَّ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفاءً بالعهد إلى ردِّ مَن جاؤوه مكبَّلين بالسلاسل أمام أعيُن الصَّحابة، الّذين لم يعودوا تحت وطأة معاهدة مختلَّة مجحِفة فحسب.
بل شاهدوا بأعيُنِهم تطبيق بعض بنودها، لكنَّهم تحكَّموا في عواطفهم وتجاوزوا ما يرَوْنَه بأعينهم، واطمأنُّوا إلى ما رآه قائدهم - عليْه الصَّلاة والسلام - بالوحْي، فهم لم يهِنُوا لما أصابهم من ضرر نفسيٍّ، ولم يرْضخوا للأمر الواقع؛ بل بدأ التَّعامُل الذكيُّ مع الوضع الجديد أثْناء المحنة نفسها، فقد أشار الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى من جاءه مسلمًا واضطرَّ إلى ردِّه بأنَّ الله سيجعل له مخرجًا، ففهم الرَّجُل الإشارة وتخلَّص في الطريق من حرَّاسه، وأقام مع بعض رُفقائه نقطة توتُّر تؤرِّق المشركين، فما كان من هؤلاء إلاَّ أن تنازلوا - هم - عن الشُّروط التي كانوا قد أمْلَوها على الطَّرف الإسلاميِّ أثناء المفاوضات.
إنَّ الصفَّ الإسلامي يحزن ويتألَّم لما أصابه من مكرٍ وتآمرٍ؛ لكنَّ ذلك لا يخلد به إلى الأرض، بل يبقى ممسكًا بأسباب النهوض والعوْدة، ويعالج جراحاته النفسيَّة وتتضاعف عنده المبادرة والجرأة وإرادة النجاح، وهكذا لا تَثنيه دركات الهبوط عن طلب مراقي الصُّعود، ولا يثبِّطه إخفاق ظرفي عن اقتِحام ساحات العمل والفوز، وهو على كلِّ حال يتحرَّك في سبيل الله، فيرضى بكلِّ ما يصيبه في هذا السَّبيل؛ فهو سؤدد في الدنيا، وذخْرٌ في الآخِرة.
ويُعْطينا الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - درسًا عمليًّا في هذا المعنى بعد غزْوة أحد، فقد حدث الانكِسار في الجولة الثانية من القتال، ودارت الدائرة على المسلمين، فأعمل فيهم المشرِكون السَّيف، وقتلوا سبعين من صناديد الصَّحابة - رضي الله عنهم - ونفذوا إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلِّم - نفسِه وطمعوا في قتله؛ بل شاع خبر موته حتَّى كاد يوهن الصفُّ الإسلامي، ثمَّ تداركه الله بلُطْفِه فانسحب الجيش الكافِر، ورجع المسلمون إلى المدينة مُنْهَكي القوى مهيضي الأجنحة، ولو بقِي الأمر بهذا الوضْع، لأمكن أن تتسرَّب الهزيمة إلى نفوس كثير من الصَّحابة، ولعلت راية الشِّرْك بالزَّهو.
لذلك أقدم الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الغد على خطوة فذَّة جريئة تثلج صدور المؤمنين، وتعكِّر على المشركين نَصْرَهم؛ أي: تنقل الهزيمة النفسيَّة - الوهن والضَّعف والاستِكانة - من الصفِّ المنهزم في المعركة العسكريّة، فيسترجع عافيته النفسيَّة إلى الصفِّ المنتصر فيصبح هو المنهزم حقًّا.
يقول الشَّيخ صفي الرَّحمن المباركفوري في كتابه "الرحيق المختوم":
"وبات الرَّسول - أي: بعد العودة إلى المدينة من أحد - وهو يفكِّر في الموقف، فقد كان يخاف أنَّ المشركين إن فكَّروا في أنَّهم لم يستفيدوا شيئًا من النَّصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القِتال، فلا بدَّ أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطَّريق لغزْو المدينة مرَّة ثانيةً، فصمَّم على أن يقوم بعمليَّة مطاردة الجيش المكِّي ... فنادى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في النَّاس وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدوِّ، وذلك صباح الغد من معركة أحد .... وقال: ((لا يَخرج معنا إلاَّ مَن شهِدوا القتال)) .... واستجاب له المسلمون على ما بِهم من الجرح الشَّديد والخوف المزيد، وقالوا: سمعًا وطاعةً ..... وسار رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - والمسلِمون معه حتَّى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة، فعسكروا هناك ..... وحينئذٍ انهارتْ عزائم الجيْش المكِّي وأخذه الفزَع والرُّعْب، فلم ير العافية إلاَّ في مواصلة الانسِحاب والرُّجوع إلى مكَّة ..... وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ غزوة حمْراء الأسد ليست بغزْوة مستقلَّة إنَّما هي جزء من غزْوة أحد، وتتمَّة لها، وصفحة من صفحاتها" (ص 286 - 287 بتصرّف).
هكذا ثبَّت الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - نفوس المسلمين بتدْبيره الحكيم، وجعل المشْركين على شعور أدْنى إلى الهزيمة منْه إلى النَّصر، فالنِّهاية لم تكْتُبْها وقائع ميدان القِتال وإنَّما نفوس الرِّجال، نفوس قويَّة مدجَّجة بالثِّقة هنا، ونفوس اعتراها الخوف هناك.
هذا؛ وقد ورد نَهي المؤمنين عن الوهن بكلِمات قرآنيَّة صريحة:
- {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [آل عمران: 139].
- {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
- {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104].
والوهن هو الخطْوة الأولى في الهزيمة النفسيَّة، فنهى الله عنْه؛ حتى لا يفضي إلى ما بعده من الضعف والاستِكانة.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى